| الرحيق المختوم | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 2:28 am | |
| [color=blue]br /br /font color=][color:1f44=" blue?]موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق [/font"> وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ في مفرزة صغيرة ـ تسعة نفر من أصحابه ـ في مؤخرة المسلمين ، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين؛ إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، فكان أمامه طريقان: إما أن ينجو ـ بالسرعة ـ بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد.
وهناك تجلت عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم وشجاعته المنقطعة النظير، فقد رفع صوته ينادي أصحابه: (إلي عباد الله)، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق.
وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون.
تبدد المسلمين في الموقف أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمها إلا أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا وراءها؟ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل.
ورجعت طائفة أخري فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران فلم يتميزا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض. روي البخاري عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: أي عباد الله أخراكم ـ أي احترزوا من ورائكم ـ فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله أبي أبي. قالت: فوالله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم. قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله .
وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضي، وتاه منها الكثيرون؛لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح: إن محمداً قد قتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقي بأسلحته مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين ـ ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان.ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال: ما تنتظرون ؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمر ؟ فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضي فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته ـ بعد نهاية المعركة ـببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم .
ونادى ثابت بن الدَحْدَاح قومه فقال: يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل، فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم. فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه .
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتَشَحَّطُ في دمه، فقال: يا فلان، أشعرت أن محمداً قد قتل ؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بَلَّغ، فقاتلوا عن دينكم .
وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، فعدلوا عن فكرة الاستسلام أو الاتصال بابن أبي، وأخذوا سلاحهم، يهاجمون تيارات المشركين، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة، وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم كذب مُخْتَلَق، فزادهم ذلك قوة على قوتهم، فنجحوا في الإفلات عن التطويق، وفي التجمع حول مركز منيع، بعد أن باشروا القتال المرير، وجالدوا بضراوة بالغة.
وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل التطويق فى بدايته، وفى مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ كانوا فى مقدمة المقاتلين، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة ـ عليه الصلاة والسلام والتحية ـ صاروا فى مقدمة المدافعين.
احتدام القتال حول رسول الله وبينما كانت تلك الطوائف تتلقي أواصر التطويق، وتطحن بين شِقَّي رَحَي المشركين، كان العراك محتدماً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن المشركين لما بدءوا عمل التطويق لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة نفر، فلما نادي المسلمين: (هلموا إلي، أنا رسول الله)، سمع صوته المشركون وعرفوه، فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين، فجري بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة.
روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: (من يردهم عنا وله الجنة ؟ أو هو رفيقي في الجنة ؟) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضاً فقال: (من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة ؟) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه ـ أي القرشيين: (ما أنصفنا أصحابنا) .
وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السَّكَن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط .
أحرج ساعة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد سقوط ابن السكن بقي الرسول في القرشيين فقط، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة ابن عبيد الله وسعد ـ بن أبي وقاص ـ وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرصة ذهبية بالنسبة إلى المشركين، ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة، فقد ركزوا حملتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وطمعوا في القضاء عليه، رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكُلِمَتْ شفته السفلي، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري فَشَجَّه في جبهته، وجاء فارس عنيد هو عبد الله بن قَمِئَة، فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر من شهر إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين، ثم ضرب على وجنته صلى الله عليه وسلم ضربة أخري عنيفة كالأولي حتى دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجْنَتِه، وقال: خذها وأنا ابن قمئة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهة: (أقمأك الله) .
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كسرت رَبَاعِيَته، وشُجَّ في رأسه، فجعل يَسْلُتُ الدم عنه ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله)، فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] .
وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ: (اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله)، ثم مكث ساعة ثم قال: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ، وفي صحيح مسلم أنه قال:(رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ، وفي الشفاء للقاضي عياض أنه قال: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).
ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير، حتى لم يتركا ـ وهما اثنان فحسب ـ سبيلا ً إلى نجاح المشركين في هدفهم، وكانا من أمهر رماة العرب فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما سعد بن أبي وقاص، فقد نثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وقال:(ارم فداك أبي وأمي) . ويدل على مدى كفاءته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع أبويه لأحد غير سعد.
وأما طلحة بن عبيد الله فقد روي النسائي عن جابر قصة تَجَمَّع المشركين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، قال جابر: فأدرك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (من للقوم ؟) فقال طلحة: أنا، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار، وقتلهم واحداً بعد واحد، بنحو ما ذكرنا من رواية مسلم، فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة. قال جابر: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال: حَسِّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قلت: بسم الله، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون)، قال: ثم رد الله المشركين . ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جرح يوم أحد تسعاً وثلاثين أو خمساً وثلاثين، وشلت إصبعه، أي السبابة والتي تليها .
وروي البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
وروي الترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ: (من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله) .
وروي أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبوبكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة.
وقال فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضاً:
يا طلحة بن عبيد الله قد وَجَبَتْ ** لك الجنان وبُوِّئتَ المَهَا العِينَا
وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب، ففي الصحيحين عن سعد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. وفي رواية: يعني جبريل وميكائيل.
بداية تجمع الصحابة حول الرسول صلى الله عليه وسلم
وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة، وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته صلى الله عليه وسلم ـ الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال ـ لم يكادوا يرون تغير الموقف، أو يسمعوا صوته صلى الله عليه وسلم حتى أسرعوا إليه ؛ لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقي من الجراحات ـ وستة من الأنصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته الجراحات، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح ـ فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو، ورد هجماته. وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
روي ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق: لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه، قلت: كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي، [حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجل من قومي أحب إلي] فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بين يديه صريعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دونكم أخـاكم فقـد أوجب)، وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم في وَجْنَتِهِ حتى غابت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجنته، فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر، إلا تركتني، قال: فأخذ بفيه فجعل ينَضِّـضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استل السهم بفيه، فنَدَرَت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر، إلا تركتني، قال:فأخذه فجعل ينضضه حتى اسْتَلَّه، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخري، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(دونكم أخاكم، فقد أوجب)، قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع عشرة ضربة . وفي تهذيب تاريخ دمشق : فأتيناه في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وستون أو أقل أو أكثر، بين طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه، فأصلحنا من شأنه.
وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي صلى الله عليه وسلم عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دُجَانة، ومصعب بن عمير، وعلى بن أبي طالب ، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعب المازنية، وقتادة ابن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي بلتعة، وأبو طلحة.
تضاعف ضغط المشركين كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهم على المسلمين، حتى سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجُحِشَتْ ركبته، وأخذه على بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوي قائماً، وقال نافع بن جبير: سمعت رجلاً من المهاجرين يقول: شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة، فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك .
البطولات النادرة وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة، لم يعرف لها التاريخ نظيراً. كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفع صدره ليقيه سهام العدو. قال أنس: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له، وكان رجلاً رامياً شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجَعْبَة من النبل فيقول: (انثرها لأبي طلحة)، قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نَحْرِي دون نحرك .
وعنه أيضاً قال: كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة حسن الرَّمْي، فكان إذا رمي تشرف النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر إلى موقع نبله.
وقام أبو دجانة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَرَّسَ عليه بظهره. والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك.
وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص ـ الذي كسر الرَّباعية الشريفة ـ فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه، وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه ـ عتبة هذا ـ إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب.
وكان سهل بن حُنَيف أحد الرماة الأبطال، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، ثم قام بدور فعال في ذود المشركين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه، فعن قتادة بن النعمان: أن رسول الله رمي عن قوسه حتى اندقت سِيتُها ، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وَجْنَتِه، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحَدَّهُما.
وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهُتِمَ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج.
وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه، فقال: (مُجَّه)، فقال: والله لا أمجه، ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)، فقتل شهيداً.
وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قَمِئَة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحاً أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً.
وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمني حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسري، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسري، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله ـ لشبهه به ـ فانصرف ابن قمئة إلى المشركين، وصاح: إن محمداً قد قتل .
إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأثره على المعركة ولم يمض على هذا الصياح دقائق، حتى شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم في المشركين والمسلمين. وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضي والاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين ؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلي المسلمين.
الرسول صلى الله عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموقف ولما قتل مصعب أعطي رسول الله اللواء على بن أبي طالب، فقاتل قتالاً شديداً، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة، يقاتلون ويدافعون.
وحينئذ استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق، فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك ـ وكان أول من عرفه ـ فنادي بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه أن اصمت ـ وذلك لئلا يعرف موضعه المشركون ـ إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله حوالى ثلاثين رجلاً من الصحابة.
وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم ؛ لعرقلة الانسحاب إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام .
تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة ـ أحد فرسان المشركين ـ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: لا نجوت إن نجا. وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لمواجهته، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصِّمَّة، فضرب على رجله فأقعده، ثم ذَفَّفَ عليه وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعطف عبد الله بن جابر ـ فارس آخر من فرسان مكة ـ على الحارث بن الصِّمَّة، فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة ـ البطل المغامر ذو العصابة الحمراء ـ على عبد الله بن جابر فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه.
وأثناء هذا القتال المرير كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله، كما تحدث عنه القرآن. قال أبو طلحة: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه .
وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة ـ في انسحاب منظم ـ إلى شعب الجبل، وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مقتل أبي بن خلف قال ابن إسحاق: فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد ؟ لا نجوتُ إن نجا. فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(دعوه)، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله وأبصر تَرْقُوَتَه من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدأدأ ـ تدحرج ـ منها عن فرسه مراراً. فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد، قالوا له: ذهب والله فؤادك، والله إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة:(أنا أقتلك) ، فوالله لو بصق على لقتلني. فمات عدو الله بسَرِف وهم قافلون به إلى مكة.وفي رواية أبي الأسود عن عروة، وكذا في رواية سعيد بن المسيب عن أبيه: أنه كان يخور خوار الثور، ويقول: والذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعاً .
طلحة ينهض بالنبي صلى الله عليه وسلم وفي أثناء انسحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل، فنهض إليها ليعلوها فلم يستطع ؛ لأنه كان قد بَدَّنَ وظاهر بين الدرعين، وقد أصابه جرح شديد.فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتى استوي عليها، وقال: (أوْجَبَ طلحةُ) ، أي:الجنة.
آخر هجوم قام به المشركون ولما تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقر قيادته في الشعب قام المشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين. قال ابن إسحاق: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل ـ يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا)، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل .
وفي مغازي الأموي: أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد:(اجْنُبْهُمْ) ـ يقول: ارددهم ـ فقال: كيف أجْنُبُهُمْ وحدي ؟ فقال ذلك ثلاثاً، فأخذ سعد سهماً من كنانته، فرمي به رجلاً فقتله، قال: ثم أخذت سهمي أعرفه، فرميت به آخر، فقتلته، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فجعلته في كنانتي. فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه .
تشويه الشهداء وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئاً ـ بل كانوا على شبه اليقين من قتله ـ رجعوا إلى مقرهم، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة، واشتغل من اشتغل منهم ـ وكذا اشتغلت نساؤهم ـ بقتلي المسلمين، يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج، ويبقرون البطون. وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، واتخذت من الآذان والأنوف خَدَماً ـ خلاخيل ـ وقلائد.
مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة وفي هذه الساعة الأخيرة وقعت وقعتان تدلان على مدي استعداد أبطال المسلمين للقتال، ومدي استماتتهم في سبيل الله:
1. قال كعب بن مالك: كنت فيمن خرج من المسلمين، فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلي المسلمين قمت فتجاوزت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول: استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم. وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه، وقال: كيف تري يا كعب ؟ أنا أبو دجانة .
2. جاءت نسوة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة، قال أنس: لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وإنهما لمشمرتان ـ أري خَدَم سوقهما ـ تَنْقُزَانِ القِرَبَ على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم . وقال عمر: كانت [أم سَلِيط من نساء الأنصار] تزفر لنا القرب يوم أحد .
وكانت في هؤلاء النسوة أم أيمن، لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة، أخذت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم:هاك المغزل، وهلم سيفك. ثم سارعت إلى ساحة القتال، فأخذت تسقي الجرحي، فرماها حِبَّان ـ بالكسر ـ بن العَرَقَة بسهم، فوقعت وتكشفت، فأغرق عدو الله في الضحك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع إلى سعد بن بي وقاص سهماً لا نصل له، وقال:(ارم به)، فرمي به سعد، فوقع السهم في نحر حبان، فوقع مستلقياً حتى تكشف، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال:(استقاد لها سعد، أجاب الله دعوته) .
بعد انتهاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشعب ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقره من الشِّعب خرج على أبي طالب حتى ملأ دَرَقَته ماء من المِهْرَاس ـ قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيراً. وقيل: اسم ماء بأحد ـ فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحاً فعافه، فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: (اشتد غضب الله على من دَمَّى وجه نبيه) .
وقال سهل: والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان يسكب الماء، وبما دُووِي ؟ كانت فاطمة ابنته تغسله، وعلى بن أبي طالب يسكب الماء بالمِجَنِّ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها فاستمسك الدم.
وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ ، فشرب منه النبى صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير. وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح ، وصلى المسلمون خلفه قعوداً.
شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر ولما تكامل تهيؤ المشركين للانـصراف أشـرف أبو سفـيان على الجبل، فـنادي أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجبيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه ـ وكان النبي صلى الله عليه وسلم منعهم من الإجابة ـ ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله، إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقي الله ما يسوءك. فقال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم قال: أعْلِ هُبَل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبونه؟) فقالوا:فما نقول؟ قال: (قولوا: الله أعلى وأجل). ثم قال: لنا العُزَّى ولا عزى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبونه؟) قالوا: ما نقول؟ قال: (قولوا:الله مولانا، ولا مولي لكم). ثم قال أبو سفيان: أنْعَمْتَ فَعَال ، يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال. فأجابه عمر، وقال: لاسواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. ثم قال أبو سفيان: هلم إلى يا عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائته فانظر ما شأنه؟) فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً؟ قال عمر: اللهم لا. وإنه ليستمع كلامك الآن. قال: أنت أصدق عندي من ابن قَمِئَة وأبر.
مواعدة التلاقي في بدر قال ابن إسحاق: ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادي: إن موعدكم بدر العام القابل.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: (قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد).
التثبت من موقف المشركين ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب، فقال: (اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا قد جَنَبُوا الخيل، وامْتَطُوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة. والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم). قال على: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووَجَّهُوا إلى مكة .
تفقد القتلى والجرحى وفرغ الناس لتفقد القتلي والجرحي بعد منصرف قريش. قال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع. فقال لي: (إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟) قال: فجعلت أطوف بين القتلي، فأتيته وهو بآخر رمق، فيه سبعون ضربة ؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، قل له، يا رسول الله، أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته .
ووجدوا في الجرحي الأُصَيرِِم ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا: إن هذا الأصيرم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه: ما الذي جاء بك، أحَدَبٌ على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (هو من أهل الجنة). قال أبو هريرة: ولم يُصَلِّ لله صلاة قط .
ووجدوا في الجرحي قُزْمَان ـ وكان قد قاتل قتال الأبطال ؛ قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين ـ وجدوه قد أثبتته الجراحة، فاحتملوه إلى دار بني ظَفَر، وبشره المسلمون فقال: والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت، فلما اشتد به الجراح نحر نفسه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ـ إذا ذكر له: (إنه من أهل النار) ـ وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوي إعلاء كلمة الله، وإن قاتلوا تحت لواء الإسلام، بل وفي جيش الرسول والصحابة.
وعلى عكس من هذا كان في القتلي رجل من يهود بني ثعلبة، قال لقومه: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق.قالوا:إن اليوم يوم السبت. قال:لا سبت لكم.فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمإلى لمحمد. يصنع فيه ما شاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مُخَيرِيق خير يهود).
| |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 2:40 am | |
| جمع الشهداء ودفنهم وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء فقال: (أنا شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يُجْرَح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة، يَدْمَي جُرْحُه، اللون لون الدم، والريح ريح المِسْك) .
وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة فأمر أن يردوهم، فيدفنوهم في مضاجعهم وألا يغسلوا، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود. وكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد، ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد، ويقول: (أيهم أكثر أَخْذًا للقرآن؟) فإذا أشاروا إلى الرجل قدمه في اللحد، وقال: (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) . ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة .
وفقدوا نعش حنظلة، فتفقدوه فوجدوه في ناحية فوق الأرض يقطر منه الماء، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة تغسله، ثم قال: (سلوا أهله ما شأنه؟) فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر.ومن هنا سمي حنظلة: غسيل الملائكة .
ولما رأى ما بحمزة ـ عمه وأخيه من الرضاعة ـ اشتد حزنه، وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمزة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنها الزبير أن يصرفها، لا تري ما بأخيها، فقالت: ولم؟ وقد بلغني أن قد مُثِّلَ بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله، فأتته فنظرت إليه، فصلت عليه ـ دعت له ـ واسترجعت واستغفرت له. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفنه مع عبد الله بن جحش ـ وكان ابن أخته، وأخاه من الرضاعة.
قال ابن مسعود: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب.وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نَشَع من البكاء ـ والنشع: الشهيق.
وكان منظر الشهداء مريعاً جداً يفتت الأكباد. قال خباب: إن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة مَلْحَاء، إذا جعلت على رأسه قَلَصَت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإِذْخَر .
وقال عبد الرحمن بن عوف: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه ، وروي مثل ذلك عن خباب، وفيه: فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر).
الرسول صلى الله عليه وسلم يثني على ربه عز وجل ويدعوه روي الإمام أحمد: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استووا حتى أثني على ربي عز وجل)، فصاروا خلفه صفوفاً، فقال:
(اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك).
(اللهم إني أسألك النعيم المقيم، الذي لا يحُول ولا يزول. اللهم إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق).
الرجوع إلى المدينة، ونوادر الحب والتفاني ولما فرغ رسول الله من دفن الشهداء والثناء على الله والتضرع إليه، انصرف راجعاً إلى المدينة، وقد ظهرت له نوادر الحب والتفاني من المؤمنات الصادقات، كما ظهرت من المؤمنين في أثناء المعركة.
لقيته في الطريق حَمْنَة بنت جحش، فَنُعِي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب، فاسترجعت واستغفرت، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولوت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن زوج المرأة منها لبِمَكان) .
ومر بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير إليها حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جَلَلٌ ـ تريد صغيرة.
وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو، وسعد آخذ بلجام فرسه، فقال: يا رسول الله، أمي، فقال: (مرحباً بها)، ووقف لها، فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ. فقالت: أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتويت المصيبة ـ أي استقللتها ـ ثم دعا لأهل من قتل بأحد، وقال: (يا أم سعد، أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً). قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: يا رسول الله، ادع لمن خلفوا منهم، فقال: (اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخَلفَ على من خُلِّفُوا) .
الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وانتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء ذلك اليوم ـ يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ ـ إلى المدينة. فلما انتهي إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال: (اغسلي عن هذا دمه يا بنية، فوالله لقد صدقني اليوم)، وناولها على بن أبي طالب سيفه، فقال: وهذا أيضاً فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن كنت صدقت القتال، لقد صدق معك سهل بن حُنَيف وأبو دُجَانة) .
قتلى الفريقين اتفقت جل الروايات على أن قتلي المسلمين كانوا سبعين، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار؛ فقد قتل منهم خمسة وستون رجلاً، واحد وأربعون من الخزرج، وأربعة وعشرون من الأوس، وقتل رجل من اليهود. وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط.
وأما قتلي المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتيلاً، ولكن الإحصاء الدقيق ـ بعد تعميق النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير، والتي تتضمن ذكر قتلي المشركين في مختلف مراحل القتال ـ يفيد أن عدد قتلي المشركين سبعة وثلاثون، لا اثنان وعشرون، والله أعلم .
حالة الطوارئ في المدينة بات المسلمون في المدينة ـ ليلة الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ بعد الرجوع من معركة أحد ـ وهم في حالة الطوارئ، باتوا ـ وقد أنهكهم التعب، ونال منهم أي منال ـ يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها، ويحرسون قائدهم الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ؛ إذ كانت تتلاحقهم الشبهات من كل جانب.
غزوة حمراء الأسد وبات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يفكر في الموقف، فقد كان يخاف أن المشركين إن فكروا في أنهم لم يستفيدوا شيئاً من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال، فلا بد من أن يندموا على ذلك، ويرجعوا من الطريق لغزو المدينة مرة ثانية، فصمم على أن يقوم بعملية مطاردة الجيش المكي.
قال أهل المغازي ما حاصله: إن النبي صلى الله عليه وسلم نادي في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء العدو ـ وذلك صباح الغد من معركة أحد، أي يوم الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ ـ وقال: (لا يخرج معنا إلا من شهد القتال)، فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك؟ قال: (لا)، واستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد، والخوف المزيد، وقالوا: سمعاً وطاعة. واستأذنه جابر بن عبد الله، وقال: يا رسول الله، إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته فائذن لي أسير معك، فأذن له.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد، على بعد ثمانية أميال من المدينة، فعسكروا هناك.
وهناك أقبل مَعْبَد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ـ ويقال: بل كان على شركه، ولكنه كان ناصحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بين خزاعة وبني هاشم من الحلف ـ فقال: يا محمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحق أبا سفيان فَيُخَذِّلَه.
ولم يكن ما خافه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تفكير المشركين في العودة إلى المدينة إلا حقاً، فإنهم لما نزلوا بالروحاء على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة تلاوموا فيما بينهم، قال بعضهم لبعض:لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم، وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم.
ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحياً ممن لم يكن يقدر قوة الفريقين ومعنوياتهم تقديراً صحيحاً ؛ ولذلك خالفهم زعيم مسئول [صفوان بن أمية] قائلاً: يا قوم، لاتفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف من الخروج ـ أي من المسلمين في غزوة أحد ـ فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم. إلا أن هذا الرأي رفض أمام رأي الأغلبية الساحقة، وأجمع جيش مكة على المسير نحو المدينة. ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بجيشه من مقره لحقه معبد بن أبي معبد الخزاعي ولم يكن يعرف أبو سفيان بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال معبد ـ وقد شن عليه حرب أعصاب دعائية عنيفة: محمد قد خرج في أصحابه، يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقاً، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما ضيعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط.
قال أبو سفيان: ويحك، ما تقول؟ قال: والله ما أري أن ترتحل حتى تري نواصي الخيل ـ أو ـ حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة. فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال: فلا تفعل، فإني ناصح.
وحينئذ انهارت عزائم الجيش المكي وأخذه الفزع والرعب، فلم ير العافية إلا في مواصلة الانسحاب والرجوع إلى مكة، بيد أن أبا سفيان قام بحرب أعصاب دعائية ضد الجيش الإسلامي، لعله ينجح في كف هذا الجيش عن مواصلة المطاردة، وطبعاً فهو ينجح في تجنب لقائه. فقد مر به ركب من عبد القيس يريد المدينة، فقال: هل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة، وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة؟
قالوا: نعم. قال: فأبلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الكرة ؛ لنستأصله ونستأصل أصحابه. فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، فأخبرهم بالذي قال له أبو سفيان، وقالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ} ـ أي زاد المسلمين قولهم ذلك ـ {إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}[آل عمران: 173، 174].
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد ـ بعد مقدمه يوم الأحد ـ الإثنين والثلاثاء والأربعاء ـ 9، 10، 11 شوال سنة 3 هـ ـ ثم رجع إلى المدينة، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الرجوع إلى المدينة أبا عَزَّة الجمحي ـ وهو الذي كان قد منّ عليه من أساري بدر ؛ لفقره وكثرة بناته، على ألا يظاهر عليه أحداً، ولكنه نكث وغدر فحرض الناس بشعره على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، كما أسلفنا، وخرج لمقاتلتهم في أحد ـ فلما أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد، أقلني، وامنن على، ودعني لبناتي، وأعطيك عهداً ألا أعود لمثل ما فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول: خدعت محمداً مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، ثم أمر الزبير أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه.
كما حكم بالإعدام في جاسوس من جواسيس مكة، وهو معاوية بن المغيرة بن أبي العاص جد عبد الملك بن مروان لأمه ؛ وذلك أنه لما رجع المشركون يوم أحد جاء معاوية هذا إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنه فاستأمن له عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قتله. فلما خلت المدينة من الجيش الإسلامي أقام فيها أكثر من ثلاث يتجسس لحساب قريش، فلما رجع الجيش خرج معاوية هارباً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعمار بن ياسر، فتعقباه حتى قتلاه .
ومما لا شك فيه أن غزوة حمراء الأسد ليست بغزوة مستقلة، وإنما هي جزء من غزوة أحد، وتتمة لها وصفحة من صفحاتها.
تلك هي غزوة أحد بجميع مراحلها وتفاصيلها، وطالما بحث الباحثون حول مصير هذه الغزوة، هل كانت هزيمة أم لا؟ والذي لا يشك فيه أن التفوق العسكري في الصفحة الثانية من القتال كان للمشركين، وأنهم كانوا مسيطرين على ساحة القتال، وأن خسارة الأرواح والنفوس كانت في جانب المسلمين أكثر وأفدح، وأن طائفة من المؤمنين انهزمت قطعاً، وأن دفة القتال جرت لصالح الجيش المكي، لكن هناك أمور تمنعنا أن نعبر عن كل ذلك بالنصر والفتح.
فمما لا شك فيه أن الجيش المكي لم يستطع احتلال معسكر المسلمين، وأن المقدار الكبير من الجيش المدني لم يلتجئ إلى الفرار ـ مع الارتباك الشديد والفوضي العامة ـ بل قاوم بالبسالة حتى تجمع حول مقر قيادته، وأن كفته لم تسقط إلى حد أن يطارده الجيش المكي، وأن أحداً من جيش المدينة لم يقع في أسر الكفار، وأن الكفار لم يحصلوا على شيء من غنائم المسلمين، وأن الكفار لم يقوموا إلى الصفحة الثالثة من القتال مع أن جيش المسلمين لم يزل في معسكره، وأنهم لم يقيموا بساحة القتال يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام ـ كما هو دأب الفاتحين في ذلك الزمان ـ بل سارعوا إلى الانسحاب وترك ساحة القتال قبل أن يتركها المسلمون، ولم يجترئوا على الدخول في المدينة لنهب الذراري والأموال، مع أنها على بعد عدة خطوات فحسب، وكانت مفتوحة وخالية تماماً.
كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش لم يكن أكثر من أنهم وجدوا فرصة نجحوا فيها بإلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليه من إبادة الجيش الإسلامي بعد عمل التطويق ـ وكثيراً ما يلقي الفاتحون بمثل هذه الخسائر التي نالها المسلمون ـ أما أن ذلك كان نصراً وفتحاً فكلا وحاشا.
بل يؤكد لنا تعجيل أبي سفيان في الانسحاب والانصراف أنه كان يخاف على جيشه المعرة والهزيمة لو جرت صفحة ثالثة من القتال، ويزداد ذلك تأكداً حين ننظر إلى موقف أبي سفيان من غزوة حمراء الأسد.
وإذن فهذه الغزوة إنما كانت حرباً غير منفصلة، أخذ كل فريق بقسطه ونصيبه من النجاح والخسارة، ثم حاد كل منها عن القتال من غير أن يفر عن ساحة القتال ويترك مقره لاحتلال العدو، وهذا هو معني الحرب غير المنفصلة.
وإلى هذا يشير قوله تعإلى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]، فقد شبه أحد العسكرين بالآخر في التألم وإيقاع الألم، مما يفيد أن الموقفين كانا متماثلين، وأن الفريقين رجعا وكل غير غالب.
القرآن يتحدث حول موضوع المعركة
ونزل القرآن يلقي ضوءاً على جميع المراحل المهمة من هذه المعركة مرحلة مرحلة، وصرح بالأسباب التي أدت إلى هذه الخسارة الفادحة، وأبدي النواحي الضعيفة التي لم تزل موجودة في طوائف أهل الإيمان بالنسبة إلى واجبهم في مثل هذه المواقف الحاسمة، وبالنسبة إلى الأهداف النبيلة السامية التي أنشئت للحصول عليها هذه الأمة، والتي تمتاز عن غيرها بكونها خير أمة أخرجت للناس.
كما تحدث القرآن عن موقف المنافقين، ففضحهم وأبدي ما كان في باطنهم من العداوة لله ولرسوله، مع إزالة الشبهات والوساوس التي كانت تختلج في قلوب ضعفاء المسلمين، والتي كان يثيرها هؤلاء المنافقون وإخوانهم اليهود ـ أصحاب الدس والمؤامرة ـ وقد أشار إلى الحكم والغايات المحمودة التي تمخضت عنها هذه المعركة.
نزلت حول موضوع المعركة ستون آية من سورة آل عمران تبتدئ بذكر أول مرحلة من مراحل المعركة: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [ آل عمران: 121 ]، وتترك في نهايتها تعليقاً جامعاً على نتائج هذه المعركة وحكمتها، قال تعإلى: {مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179].
الحكم والغايات المحمودة في هذه الغزوة قد بسط ابن القيم الكلام على هذا الموضوع بسطاً تاماً . وقال ابن حجر: قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة، منها تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤم ارتكاب النهي؛ لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يبرحوا منه.
ومنها أن عادة الرسل أن تبتلي وتكون لها العاقبة، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائماً دخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائماً لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفياً عن المسلمين، فلما جرت هذه القصة، وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريحاً، وعرف المسلمون أن لهم عدواً في دورهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم.
ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضـماً للنفس، وكسراً لشـماختها، فلما ابتلي المؤمنـون صـبروا، وجـزع المنافقون.
ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل فى دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها.
ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم.
ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه، فقيض لهم الأسباب التى يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين، ومحق بذلك الكافرين. | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 2:42 am | |
| السرايا والبعوث بين أحد والأحزاب
كان لمأساة أحد أثر سيئ على سمعة المؤمنين، فقد ذهبت ريحهم، وزالت هيبتهم عن النفوس، وزادت المتاعب الداخلية والخارجية على المؤمنين وأحاطت الأخطار بالمدينة من كل جانب، وكاشف اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء السافر، وهمت كل طائفة منهم أن تنال من المؤمنين، بل طمعت في أن تقضي عليهم وتستأصل شأفتهم.
فلم يمض على هذه المعركة شهران حتى تهيأت بنو أسد للإغارة على المدينة. ثم قامت قبائل عَضَل وقَارَة في شهر صفر سنة 4هـ بمكيدة تسببت في قتل عشرة من الصحابة، وفي نفس الشهر نفسه قام عامر بن الطُّفَيل العامري بتحريض بعض القبائل حتى قتلوا سبعين من الصحابة، وتعرف هذه الوقعة بوقعة بئر مَعُونَة، ولم تزل بنو نضير خلال هذه المدة تجاهر بالعداوة حتى قامت في ربيع الأول سنة 4 هـ بمكيدة تهدف إلى قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وتجرأت بنو غَطَفَان حتى همت بالغزو على المدينة في جمادي الأولي سنة 4 هـ.
فريح المسلمين التي كانت قد ذهبت في معركة أحد تركت المسلمين ـ إلى حين ـ يهددون بالأخطار، ولكن تلك هي حكمة محمد صلى الله عليه وسلم التي صرفت وجوه التيارات، وأعادت للمسلمين هيبتهم المفقودة، وأكسبتهم العلو والمجد من جديد. وأول ما أقدم عليه بهذا الصدد هي حركة المطاردة التي قام بها إلى حمراء الأسد، فقد حفظ بها قدراً من سمعة جيشه، واستعاد بها من مكانته شيئاً مذكوراً، ثم قام بمناورات أعادت للمسلمين هيبتهم، بل زادت فيها، وفي الصفحات الآتية شيء مما جري بين الطرفين.
سرية أبي سلمة
أول من قام ضد المسلمين بعد نكسة أحد هم بنو أسد بن خزيمة، فقد نقلت استخبارات المدينة أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون مقاتلاً من المهاجرين والأنصار، وأمر عليهم أبا سلمة، وعقد له لواء. وباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم، فتشتتوا في الأمر، وأصاب المسلمون إبلا وشاء لهم فاستاقوها، وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين لم يلقوا حرباً.
كان مبعث هذه السرية حين استهل هلال المحرم سنة 4 هـ. وعاد أبو سلمة وقد نفر عليه جرح كان قد أصابه في أحد، فلم يلبث حتى مات. بعث عبد الله بن أُنَيس وفي اليوم الخامس من نفس الشهر ـ المحرم سنة 4 هـ ـ نقلت الاستخبارات أن خالد بن سفيان الهذلي يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله ابن أنيس ليقضي عليه.
وظل عبد الله بن أنيس غائباً عن المدينة ثماني عشرة ليلة، ثم قدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم، وقد قتل خالداً وجاء برأسه، فوضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه عصا وقال: (هذه آية بيني وبينك يوم القيامة)، فلما حضرته الوفاة أوصي أن تجعل معه في أكفانه. بعث الرَّجِيع وفي شهر صفر من نفس السنة ـ أي الرابعة من الهجرة ـ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عَضَل وقَارَة، وذكروا أن فيهم إسلاماً، وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم ستة نفر ـ في قول ابن إسحاق، وفي رواية البخاري أنهم كانوا عشرة ـ وأمر عليهم مَرْثَد بن أبي مَرْثَد الغَنَوِي ـ في قول ابن إسحاق، وعند البخاري أنه عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب ـ فذهبوا معهم، فلما كانوا بالرجيع ـ وهو ماء لهُذَيلِ بناحية الحجاز بين رَابِغ وجُدَّة ـ استصرخوا عليهم حياً من هذيل يقال لهم: بنو لَحْيَان، فتبعوهم بقريب من مائة رام، واقتصوا آثارهم حتى لحقوهم، فأحاطوا بهم ـ وكانوا قد لجأوا إلى فَدْفَد ـ وقالوا : لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً. فأما عاصم فأبي من النزول وقاتلهم في أصحابه، فقتل منهم سبعة بالنبل، وبقي خُبَيب وزيد بن الدَّثِنَّةِ ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق مرة أخري، فنزلوا إليهم ولكنهم غدروا بهم وربطوهم بأوتار قِسِيهم، فقال الرجل الثالث : هذا أول الغدر، وأبي أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد فباعوهما بمكة، وكانا قتلا من رءوسهم يوم بدر، فأما خبيب فمكث عندهم مسجوناً، ثم أجمعوا على قتله، فخرجوا به من الحرم إلى التنعيم، فلما أجمعوا على صلبه قال : دعوني حتى أركع ركعتين، فتركوه فصلاهما، فلما سلم قال: والله لولا أن تقولوا: إن ما بي جزع لزدت، ثم قال:اللهم أحْصِهِمْ عَدَدًا، واقتلهم بَدَدًا ، ولا تُبْقِ منهم أحدا، ثم قال: فقال له أبو سفيان: أيسرك أن محمدا عندنا نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال: لا والله، ما يسرني أني في أهلي وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه. ثم صلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بخدعة ليلاً، فذهب به فدفنه، وكان الذي تولي قتل خبيب هو عقبة بن الحارث، وكان خبيب قد قتل أباه حارثاً يوم بدر.
وفي الصحيح أن خبيباً أول من سن الركعتين عند القتل، وأنه رئي وهو أسير يأكل قِطْفًا من العنب، وما بمكة ثمرة.
وأما زيد بن الدَّثِنَّة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه.
وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه ـ وكان عاصم قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر ـ فبعث الله عليه مثل الظُّلَّة من الدَّبْر ـ الزنابير ـ فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء. وكان عاصم أعطي الله عهداً ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً. وكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته . مأساة بئر مَعُونة وفي الشهر نفسه الذي وقعت فيه مأساة الرَّجِيع وقعت مأساة أخري أشد وأفظع من الأولي، وهي التي تعرف بوقعة بئر معونة.
وملخصها : أن أبا براء عامر بن مالك المدعو بمُلاَعِب الأسِنَّة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، فقال : يا رسول الله، لو بعثت أصحابك إلى أهل نَجْد يدعونهم إلى دينك لرجوت أن يجيبوهم، فقال: (إني أخاف عليهم أهل نجد)، فقال أبو بََرَاء : أنا جَارٌ لهم، فبعث معه أربعين رجلاً ـ في قول ابن إسحاق، وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين، والذي في الصحيح هو الصحيح ـ وأمر عليهم المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة الملقب بالمُعْنِقَ لِيمُوت ، وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم، فساروا يحتطبون بالنهار، يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن ويصلون بالليل، حتى نزلوا بئر معونة ـ وهي أرض بين بني عامر وحَرَّة بني سُلَيْم ـ فنزلوا هناك، ثم بعثوا حرام بن مِلْحَان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطُّفَيْل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلاً فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم، قال حرام : الله أكبر، فُزْتُ ورب الكعبة.
ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عُصَيَّة ورِعْل وذَكَوان، فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد بن النجار، فإنه ارْتُثَّ من بين القتلي، فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر، فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأسر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبر أنه من مُضَر جَزَّ عامر ناصيته، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه.
ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملاً معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين، تذكر نكبتهم الكبيرة بنكبة أحد ؛ إلا أن هؤلاء ذهبوا في قتال واضح ؛ وأولئك ذهبوا في غدرة شائنة.
ولما كان عمرو بن أمية في الطريق بالقَرْقَرَة من صدر قناة، نزل في ظل شجرة، وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو، وهو يري أنه قد أصاب ثأر أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، فقال :(لقد قتلت قتيلين لأدِيَنَّهما)، وانشغل بجمع ديتهما من المسلمين ومن حلفائهم اليهود ، وهذا الذي صار سبباً لغزوة بني النضير، كما سيذكر.
وقد تألم النبي صلى الله عليه وسلم لأجل هذه المأساة، ولأجل مأساة الرجيع اللتين وقعتا خلال أيام معدودة ، تألما شديداً، وتغلب عليه الحزن والقلق ، حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه. ففي الصحيح عن أنس قال : دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحاً، يدعو في صلاة الفجر على رِعْل وذَكْوَان ولَحْيَان وعُصَية، ويقول:(عُصَية عَصَتْ الله ورسوله)، فأنزل الله تعالى على نبيه قرآناً قرأناه حتى نسخ بعد: (بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه) فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قُنُوتَه . غزوة بني النضير قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتحرقون على الإسلام والمسلمين إلا أنهم لم يكونوا أصحاب حرب وضرب، بل كانوا أصحاب دس ومؤامرة، فكانوا يجاهرون بالحقد والعداوة، ويختارون أنواعاً من الحيل ؛ لإيقاع الإيذاء بالمسلمين دون أن يقوموا للقتال مع ما كان بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق، وأنهم بعد وقعة بني قينقاع وقتل كعب بن الأشرف خافوا على أنفسهم فاستكانوا والتزموا الهدوء والسكوت.
ولكنهم بعد وقعة أحد تجرأوا، فكاشفوا بالعداوة والغدر، وأخذوا يتصلون بالمنافقين وبالمشركين من أهل مكة سراً، ويعملون لصالحهم ضد المسلمين .
وصبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى ازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعة الرَّجِيع وبئر مَعُونة، حتى قاموا بمؤامرة تهدف القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم.
وبيان ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمْرِي ـ وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة ـ فقالوا : نفعل يا أبا القاسم، اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك. فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه أبو بكر وعمر وعلى وطائفة من أصحابه.
وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا : أيكم يأخذ هذه الرحي، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟... فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا. فقال لهم سَلاَّم بن مِشْكَم: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه. ولكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم.
ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله صلى الله عليه وسلم يعلمه بما هموا به، فنهض مسرعاً وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا : نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما هَمَّتْ به يهود.
وما لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم : (اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه). ولم يجد يهود مناصاً من الخروج، فأقاموا أياماً يتجهزون للرحيل، بيد أن رئيس المنافقين ـ عبد الله بن أبي ـ بعث إليهم أن اثبتوا وتَمَنَّعُوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} [الحشر:11] وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان.
وهناك عادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك.
ولا شك أن الموقف كان حرجاً بالنسبة للمسلمين، فإن اشتباكهم بخصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب، وقد رأوا كَلَب العرب عليهم وفتكهم الشنيع ببعوثهم، ثم إن يهود بني النضير كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، وتجعل فرض القتال معهم محفوفاً بالمكاره، إلا أن الحال التي جدت بعد مأساة بئر معونة وما قبلها زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر التي أخذوا يتعرضون لها جماعات وأفراداً، وضاعفت نقمتهم على مقترفيها، ومن ثم قرروا أن يقاتلوا بني النضير ـ بعد همهم باغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم ـ مهما تكن النتائج.
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم جواب حيي بن أخطب كبر وكبر أصحابه، ثم نهض لمناجزة القوم، فاستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وسار إليهم، وعلى بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهي إليهم فرض عليهم الحصار.
والتجأ بنو النضير إلى حصونهم، فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم في ذلك، فأمر بقطعها وتحريقها، وفي ذلك يقول حسان:وهان على سَرَاةِ بني لُؤي ** حـريـق بالبُوَيْرَةِ مسـتطيـر [البويرة : اسم لنخل بني النضير] وفي ذلك أنزل الله تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ} [الحشر: 5].
واعتزلتهم قريظة، وخانهم عبد الله بن أبي وحلفاؤهم من غطفان، فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيراً، أو يدفع عنهم شراً، ولهذا شبه سبحانه وتعإلى قصتهم، وجعل مثلهم:{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} [الحشر: 16]
ولم يطل الحصار ـ فقد دام ست ليال فقط، وقيل : خمس عشرة ليلة ـ حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فاندحروا وتهيأوا للاستسلام ولإلقاء السلاح، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن نخرج عن المدينة. فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح.
فنزلوا على ذلك، وخربوا بيوتهم بأيديهم، ليحملوا الأبواب والشبابيك، بل حتى حمل بعضهم الأوتاد وجذوع السقف، ثم حملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بعير، فترحل أكثرهم وأكابرهم كحيي بن أخطب وسلاَّم بن أبي الحُقَيق إلى خيبر، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وأسلم منهم رجلان فقط : يامِينُ بن عمرو وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما.
وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاح بني النضير، واستولي على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعاً وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفاً.
وكانت أموال بني النضير وأرضهم وديارهم خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ يضعها حيث يشاء، ولم يخَمِّسْها لأن الله أفاءها عليه، ولم يوجِف المسلمون عليها بِخَيلٍ ولا رِكاب، فقسمها بين المهاجرين الأولين خاصة، إلا أنه أعطي أبا دُجَانة وسهل بن حُنَيف الأنصاريين لفقرهما. وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكُرَاع عدة في سبيل الله.
كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة 4 من الهجرة، أغسطس 625م، وأنزل الله في هذه الغزوة سورة الحشر بأكملها، فوصف طرد اليهود، وفضح مسلك المنافقين، وبين أحكام الفيء، وأثني على المهاجرين والأنصار، وبين جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية، وأن ذلك ليس من الفساد في الأرض، وأوصي المؤمنين بالتزام التقوي والاستعداد للآخرة، ثم ختمها بالثناء على نفسه وبيان أسمائه وصفاته.
وكان ابن عباس يقول عن سورة الحشر : قل : سورة النضير .
هذه خلاصة ما رواه ابن إسحاق وعامة أهل السير حول هذه الغزوة. وقد روي أبو داود وعبد الرزاق وغيرهما سبباً آخر حول هذه الغزوة، وهو أنه لما كانت وقعة بدر فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود : إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خَدَم نسائكم شيء ـ وهو الخلاخيل ـ فلما بلغ كتابهم اليهود أجمعت بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك، ولنخرج في ثلاثين حبراً، حتى نلتقي في مكان كذا، نَصَفٌ بيننا وبينكم، فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبراً من يهود، حتى إذا برزوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض : كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلاً من أصحابه، كلهم يحب أن يموت قبله، فأرسلوا إليه : كيف تفهم ونفهم ونحن ستون رجلاً ؟ اخرج في ثلاثة من أصحابك ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا، فليسمعوا منك، فإن آمنوا بك آمنا كلنا وصدقناك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة نفر من أصحابه واشتملوا [أي اليهود] على الخناجر، وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى بني أخيها، وهو رجل مسلم من الأنصار، فأخبرته خبر ما أرادت بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، فساره بخبرهم قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم، وقال لهم : (إنكم لاتأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه)، فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومهم ذلك هو والمسلمون، ثم غدا الغد على بني قريظة بالخيل والكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم، وغدا إلى بني النضير بالكتائب، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا الحَلْقة ـ والحلْقة: السلاح ـ فجاءت بنو النضير واحتملوا ما أقلت إبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، فكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها، فيحملون ما وافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام . غزوة نجد وبهذا النصر الذي أحرزه المسلمون ـ في غزوة بني النضير ـ دون قتال وتضحية توطد سلطانهم في المدينة، وتخاذل المنافقون عن الجهر بكيدهم، وأمكن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يتفرغ لقمع الأعراب الذين آذوا المسلمين بعد أحد، وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالها في نذالة وكفران، وبلغت بهم الجرأة إلى أن أرادوا القيام بجر غزوة على المدينة.
فقبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بتأديب أولئك الغادرين، نقلت إليه استخبارات المدينة بتحشد جموع البدو والأعراب من بني مُحَارِب وبني ثعلبة من غَطَفَان، فسارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج، يجوس فيافي نجد، ويلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساة؛ حتى لا يعاودوا مناكرهم التي ارتكبها إخوانهم مع المسلمين.
وأضحي الأعراب الذين مردوا على النهب والسطو لا يسمعون بمقدم المسلمين إلا حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، وهكذا أرهب المسلمون هذه القبائل المغيرة، وخلطوا بمشاعرهم الرعب، ثم رجعوا إلى المدينة آمنين.
وقد ذكر أهل المغازي والسير بهذا الصدد غزوة معينة غزاها المسلمون في أرض نجد في شهر ربيع الثاني أو جمادي الأولي سنة 4 هـ، ويسمون هذه الغزوة بغزوة ذات الرِّقَاع. أما وقوع الغزوة خلال هذه المدة فهو أمر تقتضيه ظروف المدينة، فإن موسم غزوة بدر التي كان قد تواعد بها أبو سفيان حين انصرافه من أحد، كان قد اقترب. وإخلاء المدينة، مع ترك البدو والأعراب على تمردهم وغطرستهم، والخروج لمثـل هذا اللقاء الرهيب لم يكن من مصالح سياسة الحروب قطعاً ، بل كان لا بد من خضد شوكتهم وكف شرهم، قبل الخروج لمثل هذه الحرب الكبيرة، التى كانوا يتوقعون وقوعها فى رحاب بدر .
وأما أن تلك الغزوة التى قادها الرسول صلى الله عليه وسلم فى ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة 4 هـ هى غزوة ذات الرقاع فلا يصح، فإن غزوة ذات الرقاع شهدها أبو هريرة وأبو موسى الأشعرى رضي الله عنهما، وكان إسلام أبى هريرة قبل غزوة خيبر بأيام، وكذلك أبو موسى الأشعرى رضي الله عنه، وافى النبى صلى الله عليه وسلم بخيبر. وإذن فغزوة ذات الرقاع بعد خيبر ، ويدل على تأخرها عن السنة الرابعة أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى فيها صلاة الخوف، وكانت أول شرعية صلاة الخوف فى غزوة عُسْفَان، ولا خلاف أن غزوة عسفان كانت بعد الخندق، وكانت غزوة الخندق فى أواخر السنة الخامسة. غزوة بدر الثانية ولما خضد المسلمون شوكة الأعراب، وكفكفوا شرهم، أخذوا يتجهزون لملاقاة عدوهم الأكبر، فقد استدار العام وحضر الموعد المضروب مع قريش ـ في غزوة أحد ـ وحق لمحمد صلى الله عليه وسلم وصحبه أن يخرجوا ؛ ليواجهوا أبا سفيان وقومه، وأن يديروا رحى الحرب كرة أخرى حتى يستقر الأمر لأهدي الفريقين وأجدرهما بالبقاء.
ففي شعبان سنة 4هـ يناير سنة 626م خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده في ألف وخمسمائة، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه على بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وانتهي إلى بدر، فأقام بها ينتظر المشركين.
وأما أبو سفيان فخرج في ألفين من مشركي مكة، ومعهم خمسون فرساً، حتى انتهي إلى مَرِّ الظَّهْرَان على بعد مرحلة من مكة فنزل بمَجَنَّة ـ ماء في تلك الناحية.
خرج أبو سفيان من مكة متثاقلاً يفكر في عقبي القتال مع المسلمين، وقد أخذه الرعب، واستولت على مشاعره الهيبة، فلما نزل بمر الظهران خار عزمه، فاحتال للرجوع، وقال لأصحابه: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا.
ويبدو أن الخوف والهيبة كانت مستولية على مشاعر الجيش أيضاً، فقد رجع الناس ولم يبدوا أي معارضة لهذا الرأي، ولا أي إصرار وإلحاح على مواصلة السير للقاء المسلمين.
وأما المسلمون فأقاموا ببدر ثمانية أيام ينتظرون العدو، وباعوا ما معهم من التجارة فربحوا بدرهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة وقد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم، وتوطدت هيبتهم في النفوس، وسادوا على الموقف.
وتعرف هذه الغزوة ببدر الموعد، وبدر الثانية، وبدر الآخرة، وبدر الصغرى. غزوة دُوَمة الجندل
عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، وقد ساد المنطقة الأمن والسلام، واطمأنت دولته، فتفرغ للتوجه إلى أقصي حدود العرب حتى تصير السيطرة للمسلمين على الموقف، ويعترف بذلك الموالون والمعادون.
مكث بعد بدر الصغري في المدينة ستة أشهر، ثم جاءت إليه الأخبار بأن القبائل حول دومة الجندل ـ قريباً من الشام ـ تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها وأنها قد حشدت جمعاً كبيرا تريد أن تهاجم المدينة، فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سِبَاع ابن عُرْفُطَة الغفاري، وخرج في ألف من المسلمين لخمس ليال بقين من ربيع الأول سنة 5هـ، وأخذ رجلاً من بني عُذْرَة دليلاً للطريق يقال له: مذكور.
خرج يسير الليل ويكمن النهار حتى يفاجئ أعداءهم وهم غارون، فلما دنا منهم إذا هم مغربون، فهجم على ما شيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب.
وأما أهل دومة الجندل ففروا في كل وجه، فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحداً، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً، وبث السرايا وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحداً، ثم رجع إلى المدينة، ووادع في تلك الغزوة عيينة بن حصن. ودُومة بالضم: موضع معروف بمشارف الشام بينها وبين دمشق خمس ليال، وبُعْدُها من المدينة خمس عشرة ليلة.
بهذه الإجراءات السريعة الحاسمة، وبهذه الخطط الحكيمة الحازمة نجح النبي صلى الله عليه وسلم في بسط الأمن، وتنفيذ السلام في المنطقة، والسيطرة على الموقف، وتحويل مجري الأيام لصالح المسلمين، وتخفيف المتاعب الداخلية والخارجية التي كانت قد توالت عليهم وأحاطت بهم من كل جانب، فقد سكت المنافقون واستكانوا، وتم إجلاء قبيلة من اليهود، وبقيت الأخري تظاهر بإيفاء حق الجوار، وبإيفاء العهود والمواثيق، واستكانت البدو والأعراب، وحادت قريش عن مهاجمة المسلمين، ووجد المسلمون فرصة لنشر الإسلام وتبليغ رسالات رب العالمين. | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 2:44 am | |
| غزوة الأحزاب
عاد الأمن والسلام، وهدأت الجزيرة العربية بعد الحروب والبعوث التي استغرقت أكثر من سنة كاملة، إلا أن اليهود ـ الذين كانوا قد ذاقوا ألواناً من الذلة والهوان نتيجة غدرهم وخيانتهم ومؤامراتهم ودسائسهم ـ لم يفيقوا من غيهم، ولم يستكينوا، ولم يتعظوا بما أصابهم من نتيجة الغدر والتآمر. فهم بعد نفيهم إلى خيبر ظلوا ينتظرون ما يحل بالمسلمين من خلال المناوشات التي كانت قائمة بين المسلمين والوثنيين، ولما تحول مجري الأيام لصالح المسلمين، وتمخضت الليإلى والأيام عن بسط نفوذهم، وتوطد سلطانهم ـ تحرق هؤلاء اليهود أي تحرق.
وشرعوا في التآمر من جديد على المسلمين، وأخذوا يعدون العدة، لتصويب ضربة إلى المسلمين تكون قاتلة لا حياة بعدها. ولما لم يكونوا يجدون في أنفسهم جرأة على قتال المسلمين مباشرة، خططوا لهذا الغرض خطة رهيبة.
خرج عشرون رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، وكانت قريش قد أخلفت موعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها.
ثم خرج هذا الوفد إلى غَطَفَان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وعلى إثر ذلك خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة ـ وقائدهم أبو سفيان ـ في أربعة آلاف، ووافاهم بنو سليم بمَرِّ الظَّهْرَان، وخرجت من الشرق قبائل غطفان: بنو فَزَارة، يقودهم عُيينَة بن حِصْن، وبنو مُرَّة، يقودهم الحارث بن عوف، وبنو أشجع، يقودهم مِسْعَر بن رُحَيلَةِ، كما خرجت بنو أسد وغيرها.
واتجهت هذه الأحزاب وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه.
وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عَرَمْرَم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ.
ولو بلغت هذه الأحزاب والمحزبة والجنود المجندة إلى أسوار المدينة بغتة لكانت أعظم خطراً على كيان المسلمين مما يقاس، وربما تبلغ إلى استئصال الشأفة وإبادة الخضراء، ولكن قيادة المدينة كانت قيادة متيقظة، لم تزل واضعة أناملها على العروق النابضة، تتجسس الظروف، وتقدر ما يتمخض عن مجراها، فلم تكد تتحرك هذه الجيوش عن مواضعها حتى نقلت استخبارات المدينة إلى قيادتها فيها بهذا الزحف الخطير.
وسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عقد مجلس استشاري أعلي، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة، وبعد مناقشات جرت بين القادة وأهل الشوري اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان الفارسي ضي الله عنه.
قال سلمان: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خَنْدَقْنَا علينا. وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك.
وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الحظة، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعاً، وقام المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم ويساهمهم في عملهم هذا. ففي البخاري عن سهل بن سعد، قال: كنا مع رسول الله في الخندق، وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا عَيشَ إلا عيشُ الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار).
وعن أنس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرين والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأي ما بهم من النصب والجوع قال: اللهم إن العيش عيش الآخرة ** فاغفـر للأنصـار والمهـاجرة فقالوا مجيبين له: نحـن الذيـن بايعـوا محمـداً ** على الجهـاد ما بقيـنا أبداً وفيه عن البراء بن عازب قال: رأيته صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتى واري عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب ويقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصـدقنـا ولا صلينــا فأنزلن سكينـة علينـا ** وثبت الأقـدام إن لاقينــا إن الألى رغبوا علينـا ** وإن أرادوا فتـنـة أبينـــا قال: ثم يمد بها صوته بآخرها، وفي رواية: إن الألى قـد بغـوا علينـا ** وإن أرادوا فـتنـة أبينـا كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع ما يفتت الأكباد، قال أنس: كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير، فيصنع لهم بإهَالَةٍ سنخة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح.
وقال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين.
وبهذه المناسبة وقعت أثناء حفر الخندق آيات من أعلام النبوة، رأي جابر بن عبد الله في النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديدًا فذبح بهيمة، وطحنت امرأته صاعاً من شعير، ثم التمس من رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً أن يأتي في نفر من أصحابه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بجميع أهل الخندق، وهم ألف، فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا، وبقيت بُرْمَة اللحم تغط به كما هي، وبقي العجين يخبز كما هو.
وجاءت أخت النعمان بن بشير بحَفْنَة من تمر إلى الخندق ليتغدي به أبوه وخاله، فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منها التمر، وبدده فوق ثوب، ثم دعا أهل الخندق، فجعلوا يأكلون منه وجعل التمر يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه يسقط من أطراف الثواب.
وأعظم من هذين ما رواه البخاري عن جابرقال: إنا يوم خندق نحفر، فعرضت كُدْية شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال: (أنا نازل)، ثم قام وبطنه معصوب بحجر ـ ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذواقاً ـ فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المِعْوَل، فضرب فعاد كثيباً أهْيل أو أهْيم ، أي صار رملاً لا يتماسك.
وقال البراء: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءة وأخذ المعول فقال: (بسم الله)، ثم ضرب ضربة، وقال: (الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة)، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: (الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن)، ثم ضرب الثالثة، فقال: (بسم الله)، فقطع بقية الحجر، فقال: (الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني).
وروي ابن إسحاق مثل ذلك عن سلمان الفارسي رضي الله عنه.
ولما كانت المدينة تحيط بها الحرات والجبال وبساتين من النخيل من كل جانب سوي الشمال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن زحف مثل هذا الجيش الكبير، ومهاجمته المدينة لا يمكن إلا من جهة الشمال، اتخذ الخندق في هذا الجانب.
وواصل المسلمون عملهم في حفره، فكانوا يحفرونه طول النهار، ويرجعون إلى أهليهم في المساء، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة، قبل أن يصل الجيش الوثني العرمرم إلى أسوار المدينة.
وأقبلت قريش في أربعة آلاف، حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رُومَة بين الجُرْف وزَغَابَة، وأقبلت غَطَفَان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف حتى نزلوا بذَنَبِ نَقْمَي إلى جانب أحد.
{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[ الأحزاب: 12].
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سَلْع فتحصنوا به، والخندق بينهم وبين الكفار.وكان شعارهم: [حم لا ينصرون]، واستحلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة.
ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة، وجدوا خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين، بينما لم يكونوا مستعدين له حين خرجوا من ديارهم، إذ كانت هذه الخطة ـ كما قالوا ـ مكيدة ما عرفتها العرب، فلم يكونوا أدخلوها في حسابهم رأساً.
وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضاباً، يتحسسون نقطة ضعيفة ؛ لينحدروا منها، وأخذ المسلمون يتطلعون إلى جولات المشركين، يرشقونهم بالنبل، حتى لا يجترئوا على الاقتراب منه، ولا يستطيعوا أن يقتحموه، أو يهيلوا عليه التراب، ليبنوا به طريقاً يمكنهم من العبور.
وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوي في ترقب نتائج الحصار، فإن ذلك لم يكن من شيمهم، فخرجت منها جماعة فيها عمرو بن عبد وُدّ وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم، فتيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السَّبْخة بين الخندق وسَلْع، وخرج على بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم، ودعا عمرو إلى المبارزة، فانتدب له على بن أبي طالب، وقال كلمة حمي لأجلها ـ وكان من شجعان المشركين وأبطالهم ـ فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتجاولا وتصاولا حتى قتله علي رضي الله عنه، وانهزم الباقون حتى اقتحموا الخندق هاربين، وقد بلغ بهم الرعب إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهزم عن عمرو.
وقد حاول المشركون في بعض الأيام محاولة بليغة لاقتحام الخندق، أو لبناء الطرق فيها، ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيدة، ورشقوهم بالنبل، وناضلوهم أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولتهم.
ولأجل الاشتغال بمثل هذه المكافحة الشديدة فات بعض الصلوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش. فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا والله ما صليتها)، فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بُطْحَان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلي بعدها المغرب.
وقد استاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لفوات هذه الصلاة حتى دعا على المشركين، ففي البخاري عن على عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق: (ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً، كما شغلونا عن الصلاة الوسطي حتى غابت الشمس).
وفي مسند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعاً. قال النووي: وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياماً فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها. انتهي.
ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين، والمكافحة المتواصلة من المسلمين، دامت أياماً، إلا أن الخندق لما كان حائلاً بين الجيشين لم يجر بينهما قتال مباشر أو حرب دامية، بل اقتصروا على المراماة والمناضلة.
وفي هذه المراماة قتل رجال من الجيشين، يعدون على الأصابع: ستة من المسلمين، وعشرة من المشركين، بينما كان قتل واحد أو اثنين منهم بالسيف.
وفي هذه المراماة رمي سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم فقطع منه الأكْحَل، رماه رجل من قريش يقال له: حَبَّان بن العَرِقَة، فدعا سعد: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلى أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها. وقال في آخر دعائه: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب في جحورها، تريد إيصال السم داخل أجسادهم: انطلق كبير مجرمي بني النضير حيي بن أخطب إلى ديار بني قريظة فأتي كعب بن أسد القرظي ـ سيد بني قريظة وصاحب عقدهم وعهدهم، وكان قد عاقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينصره إذا أصابته حرب، كما تقدم ـ فضرب عليه حيي الباب فأغلقه كعب دونه، فما زال يكلمه حتى فتح له بابه، فقال حيي: إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طَامٍ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رُومَة، وبغطفان على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بذَنَب نَقْمَي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه.
فقال له كعب: جئتني والله بذُلِّ الدهر وبجَهَامٍ قد هَرَاق ماؤه، فهو يرْعِد ويبْرِق، ليس فيه شيء. ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.
فلم يزل حيي بكعب يفْتِلُه في الذِّرْوَة والغَارِب، حتى سمح له على أن أعطاه عهداً من الله وميثاقاً: لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك، حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين.
وفعلاً قامت يهود بني قريظة بعمليات الحرب. قال ابن إسحاق: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء والصبيان، قالت صفية: فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في غور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت، قالت: فقلت: يا حسان، إن هذا اليهودي كما تري يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَنْ وراءنا مِنْ يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فاقتله.
قال: والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت: فاحتجزت ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن وقلت: يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سبله إلا أنه رجل، قال: ما لي بسلبه من حاجة.
وقد كان لهذا الفعل المجيد من عمة الرسول صلى الله عليه وسلم أثر عميق في حفظ ذراري المسلمين ونسائهم، ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الآطام والحصون في منعة من الجيش الإسلامي ـ مع أنها كانت خالية عنهم تماماً ـ فلم يجترئوا مرة ثانية للقيام بمثل هذا العمل، إلا أنهم أخذوا يمدون الغزاة الوثنيين بالمؤن، كدليل عملي على انضمامهم إليهم ضد المسلمين، حتى أخذ المسلمون من مؤنهم عشرين جملاً.
وانتهي الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين فبادر إلى تحقيقه، حتى يستجلي موقف قريظة، فيواجهه بما يجب من الوجهة العسكرية، وبعث لتحقيق الخبر السعدين؛ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة وخَوَّات بن جبير، وقال: (انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تَفُتُّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس). فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالوا: من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد، ولا عقد. فانصرفوا عنهم، فلما أقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لحنوا له، وقالوا: عَضَل وقَارَة ؛ أي إنهم على غدر كغدر عضل وقارة بأصحاب الرَّجِيع.
وعلى رغم محاولتهم إخفاء الحقيقة تفطن الناس لجلية الأمر، فتجسد أمامهم خطر رهيب.
وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما قال الله تعالي: {وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[ الأحزاب:10، 11]
ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وحتى قال بعض آخر في ملأ من رجال قومه: إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا أن نخرج، فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة. وحتى همت بنو سلمة بالفشل، وفي هؤلاء أنزل الله تعالي: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 12، 13].
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقنع بثوبه حين أتاه غَدْر قريظة، فاضطجع ومكث طويلاً حتى اشتد على الناس البلاء، ثم نهض مبشراً يقول: (الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره)، ثم أخذ يخطط لمجابهة الظرف الراهن، وكجزء من هذه الخطة كان يبعث الحرس إلى المدينة؛ لئلا يؤتي الذراري والنساء على غرة، ولكن كان لابد من إقدام حاسم، يفضي إلى تخاذل الأحزاب، وتحقيـقاً لهــذا الهـدف أراد أن يصالـح عُيينَة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، حتى ينصرفا بقومهما، ويخلو المسلمون لإلحاق الهزيمة الساحقة العاجلة بقريش التي اختبروا مدي قوتها وبأسها مراراً، وجرت المراودة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك، فقالا: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرًي أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ؟ والله لا نعطيهم إلا السيف، فَصَوَّبَ رأيهما وقال: (إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة).
ثم إن الله عز وجل ـ وله الحمد ـ صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهزم جموعهم، وفَلَّ حدهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقال له: نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي رضي الله عنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنت رجل واحد، فَخذِّلْ عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة)، فذهب من فوره إلى بني قريظة ـ وكان عشيراً لهم في الجاهلية ـ فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت. قال: فإن قريشاً ليسوا مثلكم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم، قالوا: فما العمل يا نعيم ؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم مضي نعيم على وجهه إلى قريش وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم؟ قالوا: نعم، قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك.
فلما كانت ليلة السبت من شوال ـ سنة 5هـ ـ بعثوا إلى يهود: أنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكُرَاع والخف ، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً، فأرسل إليهم اليهود أن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فلما جاءتهم رسلهم بذلك قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى يهود إنا والله لا نرسل إليكم أحداً، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً، فقالت قريظة: صدقكم والله نعيم. فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم.
وكان المسلمون يدعون الله تعإلى: (اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا)، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال: (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم).
وقد سمع الله دعاء رسوله والمسلمين، فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين وسري بينهم التخاذل أرسل الله عليهم جنداً من الريح فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قِدْرًا إلا كفأتها، ولا طُنُبًا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جنداً من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف.
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة الباردة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحالة، وقد تهيأوا للرحيل، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره برحيل القوم، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فرجع إلى المدينة.
وكانت غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين شهراً أو نحو شهر. ويبدو بعد الجمع بين المصادر أن بداية فرض الحصار كانت في شوال ونهايته في ذي القعدة، وعند ابن سعد أن انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق كان يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة.
إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر، بل كانت معركة أعصاب، لم يجر فيها قتال مرير، إلا أنها كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام، تمخضت عن تخاذل المشركين، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة ؛ لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوي مما أتت به في الأحزاب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجلي الله الأحزاب: (الآن نغزوهم، ولا يغزونا، نحن نسير إليهم). | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 2:46 am | |
| غزوة بني قريظة
وفي اليوم الذي رجع فيه رسول الله إلى المدينة، جاءه جبريل \ عند الظهر، وهو يغتسل في بيت أم سلمة، فقال: أو قد وضعت السلاح؟ فإن الملائكة لم تضع أسلحتهم، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم، وأقذف في قلوبهم الرعب، فسار جبريل في موكبه من الملائكة.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصَلِّينَّ العصر إلا ببني قريظة، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وأعطي الراية على بن أبي طالب، وقدّمه إلى بني قريظة، فسار على حتى إذا دنا من حصونهم سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في موكبه من المهاجرين والأنصار، حتى نزل على بئر من آبار قريظة يقال لها: بئر أنَّا. وبادر المسلمون إلى امتثال أمره، ونهضوا من فورهم، وتحركوا نحو قريظة، وأدركتهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصليها إلا في بني قريظة كما أمرنا، حتى إن رجالاً منهم صلوا العصر بعد العشاء الآخرة، وقال بعضهم: لم يرد منا ذلك، وإنما أراد سرعة الخروج، فصلوها في الطريق، فلم يعنف واحدة من الطائفتين.
هكذا تحرك الجيش الإسلامي نحو بني قريظة أرسالاً حتى تلاحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ثلاثون فرساً، فنازلوا حصون بني قريظة، وفرضوا عليهم الحصار.
ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال: إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه، فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبنائهم ونسائهم ـ وقد قال لهم: والله، لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم ـ وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم، ويخرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالسيوف مُصْلِِتِين، يناجزونه حتى يظفروا بهم، أو يقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويكبسوهم يوم السبت ؛ لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا أن يجيبوه إلى واحدة من هذه الخصال الثلاث، وحينئذ قال سيدهم كعب بن أسد ـ في انزعاج وغضب: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً.
ولم يبق لقريظة بعد رد هذه الخصال الثلاث إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من المسلمين، لعلهم يتعرفون ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لُبَابة نستشيره، وكان حليفاً لهم، وكانت أمواله وولده في منطقتهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجَهَشَ النساء والصبيان يبكون في وجهه، فَرَقَّ لهم، وقالوا: يا أبا لبابة، أتري أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم ؛ وأشار بيده إلى حلقه، يقول: إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه خان الله ورسوله فمضي على وجهه، ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتي المسجد النبوي بالمدينة، فربط نفسه بسارية المسجد، وحلف ألا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبداً. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ـ وكان قد استبطأه ـ قال: (أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه).
وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كان باستطاعة اليهود أن يتحملوا الحصار الطويل ؛ لتوفر المواد الغذائية والمياه والآبار ومناعة الحصون؛ ولأن المسلمين كانوا يقاسون البرد القارس والجوع الشديد وهم في العراء، مع شدة التعب الذي اعتراهم ؛ لمواصلة الأعمال الحربية من قبل بداية معركة الأحزاب، إلا أن حرب قريظة كانت حرب أعصاب، فقد قذف الله في قلوبهم الرعب، وأخذت معنوياتهم تنهار، وبلغ هذا الانهيار إلى نهايته أن تقدم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، وصاح علي: يا كتيبة الإيمان، والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم.
وحينئذ بادروا إلى النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتقال الرجال، فوضعت القيود في أيديهم تحت إشراف محمد بن مسلمة الأنصاري، وجعلت النساء والذراري بمعزل عن الرجال في ناحية، وقامت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فأحسن فيهم، فقال: (ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟) قالوا: بلي. قال: (فذاك إلى سعد بن معاذ). قالوا: قد رضينا.
فأرسل إلى سعد بن معاذ، وكان في المدينة لم يخرج معهم للجرح الذي كان قد أصاب أكْحُلَه في معركة الأحزاب. فأُركب حماراً، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يقولون، وهم كَنَفَيْهِ: يا سعد، أجمل في مواليك، فأحسن فيهم، فإن رسول الله قد حكمك لتحسن فيهم، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئاً، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعي إليهم القوم.
ولما انتهى سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة: (قوموا إلى سيدكم)، فلما أنزلوه قالوا: يا سعد، إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك. قال: وحكمي نافذ عليهم؟ قالوا: نعم. قال: وعلى المسلمين؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من هاهنا؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له وتعظيمًا. قال: (نعم، وعلي). قال: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتسبي الذرية، وتقسم الأموال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات).
وكان حكم سعد في غاية العدل والإنصاف، فإن بني قريظة، بالإضافة إلى ما ارتكبوا من الغدر الشنيع، كانوا قد جمعوا لإبادة المسلمين ألفاً وخمسمائة سيف، وألفين من الرماح، وثلاثمائة درع، وخمسمائة ترس، وحَجَفَة ، حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبست بنو قريظة في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار، وحفرت لهم خنادق في سوق المدينة، ثم أمر بهم، فجعل يذهب بهم إلى الخنادق أرسالاً أرسالاً، وتضرب في تلك الخنادق أعناقهم. فقال من كان بعد في الحبس لرئيسهم كعب بن أسد: ما تراه يصنع بنا؟ فقال: أفي كل موطن لا تعقلون؟ أما ترون الداعي لا ينزع؟ والذاهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل ـ وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة، فضربت أعناقهم.
وهكذا تم استئصال أفاعي الغدر والخيانة، الذين كانوا قد نقضوا الميثاق المؤكد، وعاونوا الأحزاب على إبادة المسلمين في أحرج ساعة كانوا يمرون بها في حياتهم، وكانوا قد صاروا بعملهم هذا من أكابر مجرمي الحروب الذين يستحقون المحاكمة والإعدام.
وقتل مع هؤلاء شيطان بني النضير، وأحد أكابر مجرمي معركة الأحزاب حيي بن أخطب والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها كان قد دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ؛ وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه حينما جاء يثيره على الغدر والخيانة أيام غزوة الأحزاب، فلما أتي به ـ وعليه حُلَّة قد شقها من كل ناحية بقدر أنملة لئلا يُسْلَبَها ـ مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله ما لمت نفسي في معاداتك، ولكن من يُغالب الله يُغْلَب. ثم قال: أيها الناس، لا بأس بأمر الله، كتاب وقَدَر ومَلْحَمَة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس، فضربت عنقه.
وقتل من نسائهم امرأة واحدة كانت قد طرحت الرحى على خَلاَّد بن سُوَيْد فقتلته، فقتلت لأجل ذلك.
وكان قد أمر رسول الله بقتل من أنْبَتَ، وترك من لم ينبت، فكان ممن لم ينبت عطية القُرَظِي، فترك حياً فأسلم، وله صحبة.
واستوهب ثابت بن قيس، الزبير بن باطا وأهله وماله ـ وكانت للزبير يد عند ثابت ـ فوهبهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ثابت بن قيس: قد وهبك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك. فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه: سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبة، فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود، واستحيا ثابت من ولد الزبير بن باطا عبد الرحمن بن الزبير، فأسلم وله صحبة.
واستوهبت أم المنذر سلمي بنت قيس النجارية رفاعة بن سموأل القرظي، فوهبه لها فاستحيته، فأسلم وله صحبة.
وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول، فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم.
وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدي ـ وكان رجلاً لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي، فخلي سبيله حين عرفه، فلم يعلم أين ذهب.
وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم؛ سهمان للفرس وسهم للفارس، وأسهم للراجل سهماً واحداً، وبعث من السبايا إلى نجد تحت إشراف سعد بن زيد الأنصاري فابتاع بها خيلاً وسلاحاً.
واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من نسائهم رَيْحَانة بنت عمرو بن خُنَافة، فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه، هذا ما قاله ابن إسحاق.وقــال الكلبي: إنه صلى الله عليه وسلم أعتقها، وتزوجها سنة 6 هـ، وماتت مرجعـه مـن حجة الـوداع، فدفنها بالبقيـع.
ولما تم أمر قريظة أجيبت دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه ـ التي قدمنا ذكرها في غزوة الأحزاب ـ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما تم أمر قريظة انتقضت جراحته. قالت عائشة: فانفجرت من لَبَّتِهِ فلم يَرُعْهُمْ ـ وفي المسجد خيمة من بني غفار ـ إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم، فإذا سعد يغذو جرحه دماً، فمات منها.
وفي الصحيحين عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ). وصحح الترمذي من حديث أنس قال: لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة كانت تحمله).
قتل في حصار بني قريظة رجل واحد من المسلمين، وهو خلاد بن سُوَيْد الذي طرحت عليه الرحى امرأة من قريظة. ومات في الحصار أبو سِنان بن مِحْصَن أخو عُكَّاشَة.
وأما أبو لُبابة، فأقام مرتبطاً بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع، ثم نزلت توبته على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَحَرًا وهو في بيت أم سلمة، فقامت على باب حجرتها، وقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك، فثار الناس ليطلقوه، فأبي أن يطلقه أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه.
وقعت هــذه الغــزوة فـي ذي القعدة سنـة 5 هـ، ودام الحصار خمساً وعشريـن ليلة. وأنزل الله تعإلى في غزوة الأحزاب وبني قريظة آيات من سورة الأحزاب، ذكر فيها أهم جزئيات الوقعة، وبين حال المؤمنين والمنافقين، ثم تخذيل الأحزاب، ونتائج الغدر من أهل الكتاب. | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 2:48 am | |
| النشاط العسكري بعد هذه الغزوة مقتل سَلاَّم بن أبي الحُقَيْق كان سلام بن أبي الحقيق ـ وكنيته أبو رافع ـ من أكابر مجرمي اليهود الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأعانهم بالمؤن والأموال الكثيرة ، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ المسلمون من أمر قريظة استأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله. وكان قتل كعب بن الأشرف على أيدي رجال من الأوس، فرغبت الخزرج في إحراز فضيلة مثل فضيلتهم، فلذلك أسرعوا إلى هذا الاستئذان. وأذن رسول الله في قتله ونهي عن قتل النساء والصبيان، فخرجت مفرزة قوامها خمسة رجال، كلهم من بني سلمة من الخزرج، قائدهم عبد الله بن عَتِيك. خرجت هذه المفرزة، واتجهت نحو خيبر ؛ إذ كان هناك حصن أبي رافع، فلما دنوا منه، وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب، لعلى أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب. قال عبد الله بن عَتِيك: فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على وَدٍّ. قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علإلى له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت على من داخل. قلت: إن القوم لو نَذِروا بي لم يخلصوا إلى حتى أقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت. قلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش، فما أغنيت شيئاً، وصاح، فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه، فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله. ثم وضعت ضَبِيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً، حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي، وأنا أري أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب. فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع. فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته فقال: (ابسط رجلك)، فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها. هذه رواية البخاري، وعند ابن إسحاق أن جميع النفر دخلوا على أبي رافع واشتركوا في قتله، وأن الذي تحامل عليه بالسيف حتى قتله هو عبد الله بن أنيس، وفيه: أنهم لما قتلوه ليلاً، وانكسرت ساق عبد الله بن عتيك حملوه، وأتوا مَنْهَرًا من عيونهم فدخلوا فيه، وأوقد اليهود النيران واشتدوا في كل وجه، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم، وأنهم حين رجعوا احتملوا عبد الله بن عتيك حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان مبعث هذه السرية في ذي القعدة أو ذي الحجة سنة 5 هـ. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحزاب وقريظة أخذ يوجه حملات تأديبية إلى القبائل والأعراب، الذين لم يكونوا يستكينون للأمن والسلام إلا بالقوة القاهرة. سرية محمد بن مسلمة وكانت أول سرية بعد الفراغ من الأحزاب وقريظة، وكان عدد قوات هذه السرية ثلاثين راكباً. تحركت هذه السرية إلى القرطاء بناحية ضَرِيَّة بالبَكَرات من أرض نجد، وبين ضرية والمدينة سبع ليال، تحركت لعشر ليال خلون من المحرم سنة 6 هـ إلى بطن بني بكر بن كلاب. فلما أغارت عليهم هربوا، فاستاق المسلمون نعما وشاء، وقدموا المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعهم ثُمَامَة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، كان قد خرج متنكراً لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم بأمر مسيلمة الكذاب ، فأخذه المسلمون، فلما جاءوا به ربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما ذا عندك يا ثمامة؟) فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تعط منه ماشئت، فتركه، ثم مرّ به مرة أخري ؛ فقال له مثل ذلك، فرد عليه كما رد عليه أولاً ، ثم مر مرة ثالثة فقال ـ بعد ما دار بينهما الكلام السابق: (أطلقوا ثمامة)، فأطلقوه، فذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم جاءه فأسلم، وقال: والله، ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى، والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إلى من دينك، فقد أصبح دينك أحب الأديان إلى، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم على قريش قالوا: صبأت يا ثمامة، قال: لا والله، ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت يمامة ريف مكة، فانصرف إلى بلاده، ومنع الحمل إلى مكة، حتى جهدت قريش، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامـة يخلي إليـه حمل الطعـام، ففعـل رسـول الله صلى الله عليه وسلم. غزوة بني لَحْيَان بنو لحيان هم الذين كانوا قد غدروا بعشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرَّجِيع، وتسببوا في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة. والتارات الشديدة قائمة بين المسلمين وقريش والأعراب، لم يكن يري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر، فلما تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم، واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأي أن الوقت قد آن لأن يأخذ من بني لحيان ثأر أصحابه المقتولين بالرجيع، فخرج إليهم في ربيع الأول أو جمادي الأولي سنة 6 هـ في مائتين من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير حتى انتهي إلى بطن غُرَان ـ واد بين أمَجَ وعُسْفَان ـ حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم ودعا لهم، وسمعت به بنو لحيان فهربوا في رءوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُرَاع الغَمِيم لتسمع به قريش، ثم رجع إلى المدينة. وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة.متابعة البعوث والسرايا ثم تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إرسال البعوث والسرايا، وهاك صورة مصغرة منها: 1 ـ سرية عُكَّاشَة بن مِحْصَن إلى الغَمْر في ربيع الأول أو الآخر سنة 6هـ. خرج عكاشة في أربعين رجلاً إلى الغمْر، ماء لبني أسد، ففر القوم، وأصاب المسلمون مائتي بعير ساقوها إلى المدينة. 2 ـ سرية محمد بن مَسْلَمَة إلى ذي القَصَّة في ربيع الأول أو الآخر سنة 6 هـ. خرج ابن مسلمة في عشرة رجال إلى ذي القصة في ديار بني ثعلبة، فكمن القوم لهم ـ وهم مائة ـ فلما ناموا قتلوهم إلا ابن مسلمة فإنه أفلت منهم جريحاً. 3 ـ سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في ربيع الآخر سنة 6 هـ، وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على إثر مقتل أصحاب محمد بن مسلمة، فخرج ومعه أربعون رجلاً إلى مصارعهم، فساروا ليلتهم مشاة، ووافوا بني ثعلبة مع الصبح فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هرباً في الجبال، وأصابوا رجلاً واحداً فأسلم، وغنموا نَعَما وشاء. 4 ـ سرية زيد بن حارثة إلى الجَمُوم في ربيع الآخر سنة 6هـ ـ والجموم ماء لبني سليم في مَرِّ الظَّهْرَان ـ خرج إليهم زيد فأصاب امرأة من مُزَيْنَة يقال لها: حليمة، فدلتهم على محلة من بني سليم أصابوا فيها نعما وشاء وأسري، فلما قفل زيد بما أصاب وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزينية نفسها وزوجها. 5 ـ سرية زيد إلى العِيص في جمادي الأولي سنة 6 هـ في سبعين ومائة راكب، وفيها أخذت أموال عير لقريش كان قائدها أبو العاص خَتَن رسول الله صلى الله عليه وسلم.وأفلت أبو العاص، فأتي زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم رد أموال العير عليه ففعلت، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس برد الأموال من غير أن يكرههم، فردوا الكثير والقليل والكبير والصغير حتى رجع أبو العاص إلى مكة، وأدي الودائع إلى أهلها، ثم أسلم وهاجر، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بالنكاح الأول بعد ثلاث سنين ونيف، كما ثبت في الحديث الصحيح ردهــا بالنـكاح الأول ؛ لأن آيــة تحريم المسلمات على الكفار لم تكن نزلت إذ ذاك، وأما ما ورد من الحديث من أنه رد عليه بنكاح جديد، أو رد عليه بعد ست سنين فلا يصح معني، كما أنـــه ليـس بصحـيح سنداً. والعجب ممن يتمسكون بهذا الحديث الضعيف فإنهم يقولون: إن أبا العاص أسلم في أواخر سنة ثمان قبيل الفتح. ثم يناقضون أنفسهم، فيقولون: إن زينب ماتت في أوائل سنة ثمان، وقد بسطنا الكلام شيئاً في تعليقنا على بلوغ المرام. وجنح موسي بن عقبة إلى أن هذا الحادث وقع في سنة 7هـ من قبل أبي بصير وأصحابه، ولكن ذلك لا يطابق الحديث الصحيح ولا الضعيف. 6 ـ سرية زيد أيضاً إلى الطَّرِف أو الطَّرِق في جمادي الآخر سنة 6 هـ. خرج زيد في خمسة عشر رجلاً إلى بني ثعلبة فهربت الأعراب، وخافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم، فأصاب من نَعَمِهِم عشرين بعيراً، وغاب أربع ليال. 7 ـ سرية زيد أيضاً إلى وادي القري في رجب سنة 6 هـ. خرج زيد في اثني عشر رجلاً إلى وادي القري؛ لاستكشاف حركات العدو إن كانت هناك، فهجم عليهم سكان وادي القري ؛ فقتلوا تسعة، وأفلتت ثلاثة فيهم زيد بن حارثة. 8 ـ سرية الخَبَط ـ تذكر هذه السرية في رجب سنة 8 هـ، ولكن السياق يدل على أنها كانت قبل الحديبية ـ قال جابر: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب، أميرنا أبو عبيدة بن الجراح، نرصد عيراً لقريش، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط، فسمي جيش الخبط، فنحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه، فألقي إلينا البحر دابة يقال لها: العَنْبَر، فأكلنا منه نصف شهر، وادَّهَنَّا منه حتى ثابت منه أجسامنا، وصلحت، وأخذ أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه، فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل، فحمل عليه، ومر تحته، وتزودنا من لحمة وَشَائِق، فلما قدمنا المدينة، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك، فقال: (هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمة شيء تطعمونا؟) فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه. وإنما قلنا: إن سياق هذه السرية يدل على أنها كانت قبل الحديبية؛ لأن المسلمين لم يكونوا يتعرضون لعير قريش بعد صلح الحديبية. | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 2:50 am | |
| غزوة بني المُصطلق أو غزوة المريسيعوهذه الغزوة وإن لم تكن طويلة الذيل، عريضة الأطراف من حيث الوجهة العسكريـة، إلا أنها وقعـت فيـها وقـائـع أحدثـت البلبلـة والاضطـراب فـي المجتمـع الإسلامي، وتمخضت عن افتضاح المنافقين، والتشريعات التعزيرية التي أعطت المجتمع الإسلامي صورة خاصة من النبل والكرامة وطهارة النفوس. ونسرد الغزوة أولاً، ثم نذكر تلك الوقائع. كانت هذه الغزوة في شعبان سنة خمس عند عامة أهل المغازي، وسنة ست على قول ابن إسحاق. وسببها أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن رئيس بني المصطلق الحارث بن أبي ضِرَار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث بُرَيْدَة بن الحصيب الأسلمي لتحقيق الخبر، فأتاهم، ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر. وبعد أن تأكد لديه صلى الله عليه وسلم صحة الخبر ندب الصحابة، وأسرع في الخروج، وكان خروجه لليلتين خلتا من شعبان، وخرج معه جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وقيل: أبا ذر، وقيل: نُمَيْلَة بن عبد الله الليثي، وكان الحارث بن أبي ضرار قد وجه عينًا ؛ ليأتيه بخبر الجيش الإسلامي، فألقي المسلمون عليه القبض وقتلوه. ولما بلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله عينه، خافوا خوفاً شديداً وتفرق عنهم من كان معهم من العرب، وانتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المُرَيْسِيع ـ بالضم فالفتح مصغراً، اسم لماء من مياههم في ناحية قُدَيْد إلى الساحل ـ فتهيأوا للقتال. وَصَفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وراية المهاجرين مع أبي بكر الصديق، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة، فتراموا بالنبل ساعة، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملوا حملة رجل واحد، فكانت النصرة وانهزم المشركون، وقتل من قتل، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والذراري والنعم والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد، قتله رجل من الأنصار ظناً منه أنه من العدو. كذا قال أهل المغازي والسير، قال ابن القيم: هو وَهْم، فإنه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغار عليهم على الماء فسبي ذراريهم وأموالهم، كما في الصحيح أغار رسول صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وذكر الحديث. انتهي. وكان من جملة السبي: جُوَيْرِيَة بنت الحارث سيد القوم، وقعت في سهم ثابت ابن قيس، فكاتبها، فـأدي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجهـا، فأعـتق المسلـمون بسبـب هـذا التزويـج مـائـة أهـل بيـت مـن بنـي المصطلق قـد أسلمـوا، وقـالـوا: أصهـار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الوقائع التي حدثت في هذه الغزوة، فلأجل أن مبعثها كان هو رأس النفاق عبد الله بن أبي وأصحابه، نري أن نورد أولاً شيئاً من أفعالهم في المجتمع الإسلامي. دور المنافقين قبل غزوة بني المصطلق قدمنا مراراً أن عبد الله بن أبي كان يَحْنَقُ على الإسلام والمسلمين، ولاسيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم حَنَقًا شديداً ؛ لأن الأوس والخزرج كانوا قد اتفقوا على سيادته، وكانوا ينظمون له الخَرَزَ ليتوجوه إذ دخل فيهم الإسلام، فصرفهم عن ابن أبي، فكان يري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي استلبه ملكه. وقد ظهر حنقه هذا وتحرقه منذ بداية الهجرة قبل أن يتظاهر بالإسلام، وبعد أن تظاهر به. ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة على حمار ليعود سعد بن عبادة، فمر بمجلس فيه عبد الله بن أبي فخَمَّرَ ابن أبي أنفه، وقال: لا تُغَبِّرُوا علينا. ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المجلس القرآن، قال: اجلس في بيتك، ولا تؤذنا في مجالسنا. وهذا قبل أن يتظاهر بالإسلام، ولما تظاهر به بعد بدر لم يزل إلا عدوًا لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يكن يفكر إلا في تشتيت المجتمع الإسلامي وتوهين كلمة الإسلام. وكان يوإلى أعداءه، وقد تدخل في أمر بني قينقاع كما ذكرنا، وكذلك جاء في غزوة أحد من الشر والغدر والتفريق بين المسلمين، وإثارة الارتباك والفوضي في صفوفهم بما مضي. وكان من شدة مكر هذا المنافق وخداعه بالمؤمنين أنه كان بعد التظاهر بالإسلام، يقوم كل جمعة حين يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم للخطبة، فيقول: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعـوا لــه وأطيعوا، ثم يجلس، فيقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخطب. وكان من وقاحة هذا المنافق أنه قام في يوم الجمعة التي بعد أحد ـ مع ما ارتكبه من الشر والغدر الشنيع ـ قام ليقول ما كان يقوله من قبل، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا له: اجلس أي عدو الله، لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطي رقاب الناس، وهو يقول: والله لكأنما قلت بُجْرًا أن قمت أشدد أمره، فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد... فقال: ويلك، ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي. وكانت له اتصالات ببني النضير يؤامر معهم ضد المسلمين حتى قال لهم: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} [ الحشر: 11]. وكذلك فعل هو وأصحابه في غزوة الأحزاب من إثارة القلق والاضطراب وإلقاء الرعب والدهشة في قلوب المؤمنين ما قصه الله تعالى في سورة الأحزاب: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} إلى قوله: { يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 12: 20]. بيد أن جميع أعداء الإسلام من اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يعرفون جيداً أن سبب غلبة الإسلام ليس هو التفوق المادي وكثرة السلاح والجيوش والعدد، وإنما السبب هي القيم والأخلاق والمثل التي يتمتع بها المجتمع الإسلامي وكل من يمت بصلة إلى هذا الدين، وكانوا يعرفون أن منبع هذا الفيض إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو المثل الأعلى ـ إلى حد الإعجاز ـ لهذه القيم، كما عرفوا بعد إدارة دفة الحروب طيلة خمس سنين، أن القضاء على هذا الدين وأهله لا يمكن عن طريق استخدام السلاح، فقرروا أن يشنوا حرباً دعائية واسعة ضد الدين من ناحية الأخلاق والتقاليد، وأن يجعلوا شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم أول هدف لهذه الدعاية الكاذبة الخاطئة. ولما كان المنافقون هم الطابور الخامس في صفوف المسلمين، ولكونهم سكان المدينة، كان يمكن لهم الاتصال بالمسلمين واستفزاز مشاعرهم كل حين. تحمل فريضة الدعاية هؤلاء المنافقون، وعلى رأسهم ابن أبي. وقد ظهرت خطتهم هذه جلية حينما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة، فقد كان من تقاليد العرب أنهم كانوا يعتبرون المتبني مثل الابن الصلبي، فكانوا يعتقدون حرمة حليلة المتبني على الرجل الذي تبناه، فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب وجد المنافقون ثُلْمَتَيْن ـ حسب زعمهم ـ لإثارة المشاغب ضد النبي صلى الله عليه وسلم. الأولى: أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة، والقرآن لم يكن أذن في الزواج بأكثر من أربع نسوة، فكيف صح له هذا الزواج؟ الثانية: أن زينب كانت زوجة ابنه ـ مُتَبَنَّاه ـ فالزواج بها من أكبر الكبائر، حسب تقاليد العرب. وأكثروا من الدعاية في هذا السبيل، واختلقوا قصصاً وأساطير، قالوا: إن محمداً رآها بغتة، فتأثر بحسنها وشغفته حباً، وعلقت بقلبه، وعلم بذلك ابنه زيد فخلي سبيلها لمحمد، وقد نشروا هذه الدعاية المختلقة نشراً بقيت آثاره في كتب التفسير والحديث إلى هذا الزمان، وقد أثرت تلك الدعاية أثراً قوياً في صفوف الضعفاء حتى نزل القرآن بالآيات البينات فيها شفاء لما في الصدور، وينبئ عن سعة نشر هذه الدعاية أن الله استفتح سورة الأحزاب بقوله: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًاَ} [الأحزاب: 1]. وهذه إشارات عابرة، وصور مصغرة لما اقترفه المنافقون قبل غزوة بني المصطلق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكابد كل ذلك بالصبر واللين والتلطف، وكان عامة المسلمين يحترزون عن شرهم، أو يتحملونه بالصبر ؛ إذ كانوا قد عرفوهم بافتضاحهم مرة بعد أخري حسب قوله تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة :126]. دور المنافقين في غزوة بني المصطلق ولما كانت غزوة بني المصطلق وخرج فيها المنافقون مثلوا قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] فقد وجدوا متنفسين للتنفس بالشر، فأثاروا الارتباك الشديد في صفوف المسلمين، والدعاية الشنيعة ضد النبي صلى الله عليه وسلم، وهاك بعض التفصيل عنها: 1 ـ قول المنافقين: [لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الغزوة مقيماً على المُرَيْسِيع، ووردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له: جَهْجَاه الغفاري، فازدحم هو وسِنَان بن وَبَر الجهني على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها مُنْتِنَة)، وبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فغضب ـ وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث ـ وقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فأخبر زيد بن أرقم عمه بالخبر، فأخبر عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عمر، فقال عمر: مُرْ عَبَّاد بن بشر فليقتله. فقال: (فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا ولكن أَذِّنْ بالرحيل)، وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس، فلقيه أسيد بن حضير فحياه، وقال: لقد رحت في ساعة منكرة؟ فقال له: (أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟) يريد ابن أبي، فقال: وما قال؟ قال: (زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، قال: فأنت يا رسول الله، تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخَرَز ليتوجوه، فإنه يري أنك استلبته ملكاً. ثم مشي بالناس يومهم ذلك حتى أمسي، وليلتهم حتى أصبح، وصَدْر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مَـسَّ الأرض فوقعوا نياماً. فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث. أما ابن أبي فلما علم أن زيد بن أرقم بلغ الخبر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، فقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله عسي أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل. فصدقه، قال زيد: فأصابني هَمٌّ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي، فأنزل الله: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} إلى {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 1 ـ 8]، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها علي. ثم قال: (إن الله قد صدقك). وكان ابن هذا المنافق ـ وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي ـ رجلاً صالحاً من الصحابة الأخيار، فتبرأ من أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستل سيفه، فلما جاء ابن أبي قال له: والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أذن له فخلي سبيله، وكان قد قال عبد الله ابن عبد الله بن أبي: يا رسول الله، إن أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله أحمل إليك رأسه. 2 ـ حديث الإفك وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك، وملخصها: أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها، وكانت تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها، ففقدت عقداً لأختها كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هَوْدَجَها فظنوها فيه فحملوا الهودج، ولا ينكرون خِفَّتَه؛ لأنها رضي الله عنها كانت فَتِيَّةَ السن لم يَغْشَهَا اللحم الذي كان يثقلها، وأيضاً فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته، ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين لم يخف عليهما الحال، فرجعت عائشة إلى منازلهم، وقد أصابت العقد، فإذا ليس به داع ولا مجيب، فقعدت في المنزل، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها، والله غالب على أمره، يدبر الأمر من فوق عرشه كما يشاء، فغلبتها عيناها، فنامت، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المُعَطَّل: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان صفوان قد عَرَس في أخريات الجيش ؛ لأنه كان كثير النوم، فلما رآها عرفها، وكان يراها قبل نزول الحجاب، فاسترجع وأناخ راحلته، فقربها إليها، فركبتها، وما كلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه إلا استرجاعه، ثم سار بها يقودها، حتى قدم بها، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة، فلما رأي ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته، وما يليق به، ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفساً، فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يستحكي الإفك، ويستوشيه، ويشيعه، ويذيعه، ويجمعه ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه، فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لايتكلم، ثم استشار أصحابه ـ لما استلبث الوحي طويلاً ـ في فراقها، فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها، ويأخذ غيرها، تلويحاً لاتصريحاً، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها، وألا يلتفت إلى كلام الأعداء. فقام على المنبر يستعذر من عبد الله ابن أبي، فأظهر أسيد بن حضير سيد الأوس رغبته في قتله فأخذت سعد بن عبادة ـ سيد الخزرج، وهي قبيلة ابن أبي ـ الحمية القبلية، فجري بينهما كلام تثاور له الحيان، فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سكتوا وسكت. أما عائشة فلما رجعت مرضت شهراً، وهي لاتعلم عن حديث الإفك شيئاً، سوي أنها كانت لا تعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي، فلما نَقِهَتْ خرجت مع أم مِسْطَح إلى البَرَاز ليلاً، فعثرت أم مسطح في مِرْطِها، فدعت على ابنها، فاستنكرت ذلك عائشة منها، فأخبرتها الخبر، فرجعت عائشة واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لتأتي أبويها وتستيقن الخبر، ثم أتتهما بعد الإذن حتى عرفت جلية الأمر، فجعلت تبكي، فبكت ليلتين ويوماً، لم تكن تكتحل بنوم، ولا يرقأ لها دمع، حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فتشهد وقال: (أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه). وحينئذ قَلَص دمعها، وقالت لكل من أبويها أن يجيبا، فلم يدريا ما يقولان. فقالت: والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة ـ والله يعلم أني بريئة ـ لا تصدقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر ـ والله يعلم أني منه بريئة ـ لتُصَدِّقنِّي، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف، قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]. ثم تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته، فَسُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك. فكانت أول كلمة تكلم بها: (يا عائشة، أما الله فقد برأك)، فقالت لها أمها: قومي إليه.. فقالت عائشة ـ إدلالاً ببراءة ساحتها، وثقة بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله. والذي أنزله الله بشأن الإفك هو قوله تعالي: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ...} [ النور: 11: 20]. العشر الآيات. وجُلِد من أهل الإفك مِسْطَح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحَمْنَة بنت جحش، جلدوا ثمانين ثمانين، ولم يُحَدّ الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك، والذي تولي كبره ؛ إما لأن الحدود تخفيف لأهلها، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، وإما للمصلحة التي ترك لأجلها قتله. وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك والارتياب والقلق والاضطراب عن جو المدينة، وافتضح رأس المنافقين افتضاحاً لم يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك، قال ابن إسحاق: وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: (كيف ترى يا عمر؟ أما والله لوقتلته يوم قلت لي: اقتله، لأرعدت له آنف، ولو أمرتها اليوم بقتله لقتلته). قال عمر: قد والله علمتُ، لأمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري.البعوث والسرايا بعد غزوة المُرَيْسِيع 1 ـ سرية عبد الرحمن بن عوف إلى ديار بني كلب بدَوْمَة الجَنْدَل، في شعبان سنة 6 هـ. أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه وعممه بيده، وأوصاه بأحسن الأمور في الحرب، وقال له: (إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم)، فمكث عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن تُمَاضِر بنت الأصبغ، وهي أم أبي سلمة، وكان أبوها رأسهم وملكهم. 2 ـ سرية على بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفَدَك، في شعبان سنة 6 هـ. وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بها جمعاً يريدون أن يمدوا اليهود. فبعث إليهم علياً في مائتي رجل، وكان يسير الليل ويكمن النهار، فأصاب عيناً لهم، فأقر أنهم بعثوه إلى خيبر يعرضون عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر. ودل العين على موضع تجمع بني سعد، فأغار عليهم علي، فأخذ خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظُّعنُ، وكان رئيسهم وَبَر بن عُلَيْم. 3 ـ سرية أبي بكر الصديق أو زيد بن حارثة إلى وادي القري، في رمضان سنة 6هـ. كان بطن من فَزَارة يريد اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق. قال سَلَمَة بن الأكْوَع: وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمرنا فشننا الغارة، فوردنا الماء، فقتل أبو بكر من قتل، ورأيت طائفة وفيهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم، ورميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، وفيهم امرأة هي أم قِرْفَة، عليها قَشْعٌ من أدِيم، معها ابنتها من أحسن العرب، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني أبو بكر ابنتها، فلم أكشف لها ثوبا، وقد سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أم قِرْفَة، فبعث بها إلى مكة، وفدي بها أسري من المسلمين هناك. وكانت أم قرفة شيطانة تحاول اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، وجهزت ثلاثين فارساً من أهل بيتها لذلك، فلاقت جزاءها، وقتل الثلاثون. 4 ـ سرية كُرْز بن جابر الفهري إلى العُرَنِيِّين، في شوال سنة 6 هـ، وذلك أن رهطاً من عُكَل وعُرَينَة أظهروا الإسلام، وأقاموا بالمدينة فاستوخموها، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذود في المراعي، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، وكفروا بعد إسلامهم، فبعث في طلبهم كرزاً الفهري في عشرين من الصحابة، ودعا على العرنيين: (اللّهم أعم عليهم الطريق، واجعلها عليهم أضيق من مَسَك)، فعمي الله عليهم السبيل فأدركوا، فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسَمُلَتْ أعينهم، جزاء وقصاصاً بما فعلوا، ثم تركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا ، وحديثهم في الصحيح عن أنس. ويذكر أهل السير بعد ذلك سرية عمرو بن أمية الضَّمْرِي مع سلمة بن أبي سلمة، في شوال سنة 6 هـ. أنه ذهب إلى مكة لاغتيال أبي سفيان ؛ لأن أبا سفيان كان أرسل أعرابياً لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، بيد أن المبعوثين لم ينجحا في الاغتيال، لاهذا، ولا ذاك. ويذكرون أن عمرا قتل في الطريق ثلاثة رجال، ويقولون: إن عمرا أخذ جثة الشهيد خُبَيْب في هذا السفر، والمعروف أن خبيباً استشهد بعد الرَّجِيع بأيام أو أشهر، ووقعة الرجيع كانت في صفر سنة 4 هـ، فلا أدري هل اختلط السفران على أهل السير، أو كان الأمران في سفر واحد في السنة الرابعة، وقد أنكر العلامة المنصورفوري أن تكون هذه السرية سرية حرب أو مناوشة. والله أعلم. هذه هي السرايا والغزوات بعد الأحزاب، وبني قريظة، لم يجر في واحدة منها قتال مرير، وإنما وقعت فيما وقعت مصادمة خفيفة، فليست هذه البعوث إلا دوريات استطلاعية، أو تحركات تأديبية ؛ لإرهاب الأعراب والأعداء الذين لم يستكينوا بعد. ويظهر بعد التأمل في الظروف أن مجري الأيام كان قد أخذ في التطور بعد غزوة الأحزاب، وأن أعداء الإسلام كانت معنوياتهم في انهيار متواصل، ولم يكن بقي لهم أمل في نجاح كسر الدعوة الإسلامية وخَضْد شوكتها، إلا أن هذا التطور ظهر جلياً بصلح الحديبية، فلم تكن الهدنة إلا الاعتراف بقوة الإسلام، والتسجيل على بقائها في ربوع الجزيرة العربية. | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 2:52 am | |
| سبب عمرة الحديبية ولما تطورت الظروف في الجزيزة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين، أخذت طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئاً فشيئاً، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام، الذي كان قد صد عنه المشركون منذ ستة أعوام. أري رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو بالمدينة، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك، وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر.استنفار المسلمين واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه، فأبطأ كثير من الأعراب، أما هو فغسل ثيابه، وركب ناقته القَصْواء، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم أو نُمَيْلَة الليثي. وخرج منها يوم الإثنين غرة ذي القعدة سنة 6 هـ، ومعه زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة، ويقال: ألف وخمسمائة، ولم يخرج معه بسلاح، إلا سلاح المسافر: السيوف في القُرُب.
المسلمون يتحركون إلى مكة وتحرك في اتجاه مكة، فلما كان بذي الحُلَيْفَة قَلَّد الهدي وأشْعَرَه، وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه، وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش، حتى إذا كان قريباً من عُسْفَان أتاه عينه، فقال: إني تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعاً، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقال: (أترون نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله، أم تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟) فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فروحوا)، فراحوا. محاولة قريش صد المسلمين عن البيت وكانت قريش لما سمعت بخروج النبي صلى الله عليه وسلم عقدت مجلساً استشارياً قررت فيه صد المسلمين عن البيت كيفما يمكن، فبعد أن أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأحابيش، نقل إليه رجل من بني كعب أن قريشاً نازلة بذي طُوَي، وأن مائتي فارس في قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكُرَاع الغَمِيم في الطريق الرئيسي الذي يوصل إلى مكة. وقد حاول خالد صد المسلمين، فقام بفرسانه إزاءهم يتراءي الجيشان. ورأي خالد المسلمين في صلاة الظهر يركعون ويسجدون، فقال: لقد كانوا على غرة، لو كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، ثم قرر أن يميل على المسلمين ـ وهم في صلاة العصر ـ ميلة واحدة، ولكن الله أنزل حكم صلاة الخوف، ففاتت الفرصة خالداً. تبديل الطريق ومحاولة اجتناب اللقاء الدامي وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقاً وَعْرًا بين شعاب، وسلك بهم ذات اليمين بين ظهري الحَمْض في طريق تخرجه على ثنية المُرَار مهبط الحديبية من أسفل مكة، وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إلى الحرم ماراً بالتنعيم، تركه إلى اليسار، فلما رأي خالد قَتَرَة الجيش الإسلامي قد خالفوا عن طريقه انطلق يركض نذيراً لقريش. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بثنية المرار بركت راحلته، فقال الناس: حَلْ حَلْ، فألَحَّتْ ، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)، ثم قال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصي الحديبية، على ثَمَد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث أن نزحوه. فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا. بُدَيْل يتوسط بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بديل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانت خزاعة عَيْبَة نُصْح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تُهَامَة، فقال: إني تركت كعب ابن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العُوذ المطَافِيل ، وهم مقاتلوك وصادَوك عن البيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم، ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا ، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره). قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتي قريشاً، فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا وكذا، فبعثت قريش مِكْرَز بن حفص، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجل غادر، فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش وأخبرهم. رسل قريش ثم قال رجل من كنانة ـ اسمه الحُلَيْس بن علقمة: دعوني آته. فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها)، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأي ذلك. قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أري أن يصدوا، وجري بينه وبين قريش كلام أحفظه. فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رُشْد فاقبلوها، ودعوني آته، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل. فقال له عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخري فوالله إني لا أري وجوها، وإني أري أوباشا من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، قال له أبو بكر: امصص بَظْر اللات، أنحن نفر عنه؟ قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت عندي لم أجْزِكَ بها لأجبتك. وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المِغْفَرُ، فكلما أهوي عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، وقال: من ذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي عُذَر، أو لستُ أسعي في غَدْرَتِك؟ وكان المغيرة صَحِبَ قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبلُ، وأما المال فلست منـه فـي شيء) (وكان المغيرة ابن أخي عروة). ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له، فرجع إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على قيصر وكسري والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها. هو الذي كف أيديهم عنكم ولما رأي شباب قريش الطائشون، الطامحون إلى الحرب، رغبة زعمائهم في الصلح فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح، فقرروا أن يخرجوا ليلاً، ويتسللوا إلى معسكر المسلمين، ويحدثوا أحداثاً تشعل نار الحرب، وفعلاً قد قاموا بتنفيذ هذا القرار، فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلاً فهبطوا من جبل التنعيم، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين، غير أن محمد بن مسلمة قائد الحرس اعتقلهم جميعاً. ورغبة فـــي الصلــح أطلـق سراحهم النبي صلى الله عليه وسلم وعفا عنـهم، وفي ذلك أنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] عثمان بن عفان سفيراً إلى قريش وحينئذ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث سفيراً يؤكد لدي قريش موقفه وهدفه من هذا السفر، فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم، فاعتذر قائلاً: يا رسول الله، ليس لي أحد بمكة من بني عدي بن كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعاه، وأرسله إلى قريش، وقال: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عماراً، وادعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان. فانطلق عثمان حتى مر على قريش بِبَلْدَح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك، وقام إليه أبان ابن سعيد بن العاص، فرحب به ثم أسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، وأجاره وأردفه حتى جاء مكة، وبلغ الرسالة إلى زعماء قريش، فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت، فرفض هذا العرض، وأبي أن يطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم. إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان واحتبسته قريش عندها ـ ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضع الراهن، ويبرموا أمرهم، ثم يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة ـ وطال الاحتباس، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغته الإشاعة: (لا نبرح حتى نناجز القوم)، ثم دعا أصحابه إلى البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على ألا يفروا، وبايعته جماعة على الموت، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات، في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال: (هذه عن عثمان). ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له: جَدُّ بن قَيْس. أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البيعة تحت شجرة، وكان عمر آخذا بيده، ومَعْقِل بن يَسَار آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}الآية [الفتح: 18] إبرام الصلح وبنوده وعرفت قريش ضيق الموقف، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح، وأكدت له ألا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا، لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً، فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه \ قال: (قد سهل لكم أمركم)، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فجاء سهيل فتكلم طويلاً، ثم اتفقا على قواعد الصلح، وهي هذه: 1. الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع من عامه، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب، السيوف في القُرُب، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض. 2. وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض. 3. من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق. 4. من أتي محمداً من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه. ثم دعا علياً ليكتب الكتاب، فأملي عليه: (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل: أما الرحمن فوالله لا ندري ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللّهم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. ثم أملي: (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله) فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله فقال: (إني رسول الله وإن كذبتموني)، وأمر علياً أن يكتب: محمد بن عبد الله، ويمحو لفظ رسول الله، فأبي على أن يمحو هذا اللفظ. فمحاه صلى الله عليه وسلم بيده، ثم تمت كتابة الصحيفة، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب، كما قدمنا في أوائل الكتاب، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيداً لذلك الحلف القديم ـ ودخلت بنو بكر في عهد قريش. رد أبي جندل وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَنْدَل بن سهيل يَرْسُفُ في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمي بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل: هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد). فقال: فوالله إذا لا أقاضيك على شيء أبداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي). قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: (بلى فافعل)، قال: ما أنا بفاعل. وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجره ؛ ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم). فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني قائم السيف منه، يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية. النَّحْر والحَلْق للحِلِّ عن العمرة ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال: (قوموا فانحروا)، فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله، أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنَه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأي الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، وكانوا نحروا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملاً كان لأبي جهل، كان في أنفه بُرَةٌ من فضة، ليغيظ به المشركين، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً بالمغفرة وللمقصرين مرة. وفي هذا السفر أنزل الله فدية الأذي لمن حلق رأسه، بالصيام، أو الصدقة، أو النسك، في شأن كعب بن عُجْرَة. الإباء عن رد المهاجرات ثم جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي تم في الحديبية، فرفض طلبهم هذا ؛ بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهدة بصدد هذا البند هي: (وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته علينا) ، فلم تدخل النساء في العقد رأساً. وأنزل الله في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}، حتى بلغ {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقوله تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا...} إلخ [الممتحنة: 12]، فمن أقرت بهذه الشروط قال لها: (قد بايعتك)، ثم لم يكن يردهن. وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم. فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، تزوج بإحداهما معاوية، وبالأخري صفوان بن أمية. ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة هذا هو صلح الحديبية، ومن سبر أغوار بنوده مع خلفياته لا يشك أنه فتح عظيم للمسلمين، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف، بل كانت تهـدف استئصـال شأفتهم، وتنتظر أن تشهد يوماً ما نهايتهم، وكانت تحاول بأقصي قوتها الحيلولة بين الدعوة الإسلامية وبين الناس، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في جزيرة العرب، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين، وأن قريشاً لا تقدر على مقاومتهم، ثم البند الثالث يدل بفحواه على أن قريشاً نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية، وأنها لاتهمها الآن إلا نفسها، أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها، فلايهم ذلك قريشاً، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل. أليس هذا فشلاً ذريعاً بالنسبة إلى قريش؟ وفتحا مبيناً بالنسبة إلى المسلمين؟ إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها ـ بالنسبة إلى المسلمين ـ مصادرة الأموال وإبادة الأرواح، وإفناء الناس، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام، وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون من هذه الحروب هو الحــرية الكاملة للناس فـي العــقيدة والــدين {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر} [الكهف: 29]. لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات، وقدحصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين، وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحاً كبيراً في الدعوة، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة صار عدد الجيش الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف. أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين، فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب، وإنما بدأتها قريش، يقول الله تعالى: {وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 13]، أما المسلمون فلم يكن المقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل الله، وتعمل معهم بالمساواة، كل من الفريقين يعمل على شاكلته، فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد، ودليل على فشل من بدأ بالحرب وعلى ضعفه وانهياره. أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام، فهو أيضاً فشل لقريش، وليس فيه ما يشفي قريشاً سوي أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط. أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين، وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط، وهي ما في البند الرابــع، ولـكن تلك الخلة تافهة جداً، ليس فيها شيء يضر بالمسلمين، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلماً لا يفر عن الله ورسوله، وعن مدينة الإسلام، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهراً أو باطناً، فإذا ارتد فلا حاجة إليه للمسلمين، وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه، وهذا الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله). وأما من أسلم من أهل مكة فهو وإن لم يبق للجوئه إلى المدينة سبيل لكن أرض الله واسعة، ألم تكن الحبشة واسعة للمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام شيئاً؟ وهذا الذي أشار إليه النبي بقوله: (ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً). والأخذ بمثل هذا الاحتفاظ، وإن كان مظهر الاعتزاز لقريش، لكنه في الحقيقة ينبئ عن شدة انزعاج قريش وهلعهم وخَوَرِهم، وعن شدة خوفهم على كيانهم الوثني، وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليوم على شفا جُرُف هار لا بد له من الأخذ بمثل هذا الاحتفاظ. وما سمح به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسترد من فرّ إلى قريش من المسلمين، فليس هذا إلا دليلاً على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال الاعتماد، ولا يخاف عليه من مثل هذا الشرط. حزن المسلمين ومناقشة عمر النبي صلى الله عليه وسلم هذه هي حقيقة بنود هذ الصلح، لكن هناك ظاهرتان عمت لأجلهما المسلمين كآبة وحزن شديد. الأولي: أنه كان قد أخبرهم أنا سنأتي البيت فنطوف به، فما له يرجع ولم يطف به؟ الثانية: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الحق، والله وعد إظهار دينه، فما له قبل ضغط قريش، وأعطي الدَّنِيَّةَ في الصلح؟ كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون، وصارت مشاعر المسلمين لأجلهما جريحة، بحيث غلب الهم والحزن على التفكير في عواقب بنود الصلح.ولعل أعظمهم حزناً كان عمر بن الخطاب، فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قـال: (بلى). قـال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: (بلي). قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: (يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري ولن يضيعني أبداً). قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: (بلي، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟) قال: لا. قال: (فإنك آتيه ومطوف به). ثم انطلق عمر متغيظا فأتي أبا بكر، فقال له كما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر، كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، وزاد: فاستمسك بغَرْزِه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق. ثم نزلت: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا...} إلخ [سورة الفتح:1]، فأرسل رسول الله إلى عمر فأقرأه إياه. فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال: (نعم). فطابت نفسه ورجع. ثم ندم عمر على ما فرط منه ندماً شديداً، قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً، مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً. انحلت أزمة المستضعفين ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واطمأن بها، انفلت رجل من المسلمين، ممن كان يعذب في مكة، وهو أبو بَصِير، رجل من ثقيف حليف لقريش، فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: العهد الذي جعلت لنا. فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحُلَيْفَة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأري سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جَرَّبْتُ به ثم جَرَّبْتُ. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد. وفر الآخر حتى أتي المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: (لقد رأى هذا ذعراً)، فلما انتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتِل صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير وقال: يا نبي الله، قد والله أوْفَي الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه، مِسْعَر حَرْبٍ لو كان له أحد)، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتي سِيفَ البحر، وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة. فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فقدموا عليه المدينة. إسلام أبطال من قريش وفي سنة 7 من الهجرة بعد هذا الصلح أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، ولما حضروا عند النبـي صلى الله عليه وسلم قـال: (إن مكـة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها).
عدل سابقا من قبل saeeddz في السبت أبريل 09, 2011 3:12 am عدل 1 مرات | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 2:55 am | |
| المرحلة الثانية: طور جديد إن صلح الحديبية كان بداية طور جديد في حياة الإسلام والمسلمين، فقد كانت قريش أقوي قوة وأعندها وألدها في عداء الإسلام، وبانسحابها عن ميدان الحرب إلى رحاب الأمن والسلام انكسر أقوي جناح من أجنحة الأحزاب الثلاثة ـ قريش وغَطَفَان واليهود ـ ولما كانت قريش ممثلة للوثنية، وزعيمتهم في ربوع جزيرة العرب انخفضت حدة مشاعر الوثنيين، وانهارت نزعاتها العدائية إلى حد كبير، ولذلك لا نري لغطفان استفزازاً كبيراً بعد هذه الهدنة، وجل ما جاء منهم إنما جاء من قبل إغراء اليهود. أما اليهود فكانوا قد جعلوا خيبر بعد جلائهم عن يثرب وكرا للدس والتآمر، وكانت شياطينهم تبيض هناك وتفرخ، وتؤجج نار الفتنة، وتغري الأعراب الضاربة حول المدينة، وتبيت للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أو لإلحاق الخسائر الفادحة بهم، ولذلك كان أول إقدام حاسم من النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا الصلح هو شن الحرب الفاصلة على هذا الوكر. ثم إن هذه المرحلة التي بدأت بعد الصلح أعطت المسلمين فرصة كبيرة لنشر الدعوة الإسلامية وإبلاغها، وقد تضاعف نشاط المسلمين في هذا المجال، وبرز نشاطهم في هذا الوجه على نشاطهم العسكري ؛ ولذلك نري أن نقسم هذه المرحلة إلى قسمين: 1 ـ النشاط في مجال الدعوة، أو مكاتبة الملوك والأمراء. 2 ـ النشاط العسكري. وقبل أن نتابع النشاط العسكري في هذه المرحلة، نتناول موضوع مكاتبة الملوك والأمراء ؛ إذ الدعوة الإسلامية هي المقدمة طبعاً، بل ذلك هو الهدف الذي عاني له المسلمون ما عانوه من المصائب والآلام، والحروب والفتن، والقلاقل والاضطرابات. مكاتبة الملوك والأمراء في أواخر السنة السادسة حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. ولما أراد أن يكتب إلى هؤلاء الملوك قيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا وعليه خاتم، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة، نقشه: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا النقش ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر، هــكذا. واختار من أصحابه رسلاً لهم معرفة وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك، وقد جزم العلامة المنصورفوري أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل هؤلاء الرسل غرة المحرم سنة سبع من الهجرة قبل الخروج إلى خيبر بأيام. وفيما يلي نصوص هذه الكتب، وبعض ما تمخضت عنه. 1 ـ الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة: وهذا النجاشي اسمه أصْحَمَة بن الأبْجَر، كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن أمية الضَّمْرِي في آخر سنة ست أو في المحرم سنة سبع من الهجرة. وقد ذكر الطبري نص الكتاب، ولكن النظر الدقيق في ذلك النص، يفيد أنه ليس بنص الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، بل لعله نص كتاب بعثه مع جعفر حين خرج هو وأصحابه مهاجرين إلى الحبشة في العهد المكي، فقد ورد في آخر الكتاب ذكر هؤلاء المهاجرين بهذا اللفظ: (وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر). وروي البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وهو هذا: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله إلى النجاشي، الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدي، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبه ولا ولداً، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الإسلام، فإني أنا رسوله فأسلم تسلم، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك). وقد أورد المحقق الكبير الدكتور حميد الله ـ باريس ـ نص كتاب قد عثر عليه في الماضي القريب ـ بمثل ما أورده ابن القيم مع الاختلاف في كلمة فقط ـ وبذل الدكتور في تحقيق ذلك النص جهداً بليغاً، واستعان في ذلك كثيراً باكتشافات العصر الحديث، وأورد صورته في الكتاب وهو هكذا: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسي بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسي من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعو إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبل نصيحتى، والسلام على من اتبع الهدى). وأكد الدكتور المحترم أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي بعد الحديبية، أما صحة هذا النص فلا شك فيها بعد النظر في الدلائل، وأما أن هذا الكتاب هو الذي كتب بعد الحديبية فلا دليل عليه، والذي أورد البيهقي عن ابن إسحاق أشبه بالكتب التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك وأمراء النصاري بعد الحديبية، فإن فيه الآية الكريمة: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ...} إلخ، كما كان دأبه في تلك الكتب، وقد ورد فيه اسم الأصحمة صريحاً، وأما النص الذي أورده الدكتور حميد الله، فالأغلب عندي أنه نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته، ولعل هذا هو السبب في ترك الاسم. وهذا الترتيب ليس عندي عليه دليل قطعي سوي الشهادات الداخلية التي تؤديها نصوص هذه الكتب. والعجب من الدكتور حميد الله أنه جزم بأن النص الذي أورده البيهقي عن ابن عباس هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته مع أن اسم أصحمة وارد في هذا النص صريحاً، والعلم عند الله. ولما بلغ عمرو بن أمية الضمري كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي أخذه النجاشي، ووضعه على عينه، ونزل عن سريره على الأرض، وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهاك نصه: [بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسي، فورب السماء والأرض إن عيسي لا يزيد على ما ذكرت تُفْرُوقا، إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابك، فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين). وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من النجاشي أن يرسل جعفراً ومن معه من مهاجري الحبشة، فأرسلهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري، فقدم بهم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر. وتوفي النجاشي هذا في رجب سنة تسع من الهجرة بعد تبوك، ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم وفاته، وصلي عليه صلاة الغائب، ولما مات وتخلف على عرشه ملك آخر كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً آخر، ولا يدري هل أسلم أم لا؟. 2 ـ الكتاب إلى المقوقس ملك مصر: وكتــب النبــي صلى الله عليه وسلم إلى جُرَيْج بـن مَتَّي الملقب بالمُقَوْقِس ملك مصر والإسكندرية: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبــط، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}) واختار لحمل هذا الكتاب حاطب بن أبي بَلْتَعَة. فلما دخل حاطب على المقوقس قال له: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك. فقال المقوقس: إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه. فقال حاطب: ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فَقْدَ ما سِواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصاري، ولعمري ما بشارة موسي بعيسي إلا كبشارة عيسي بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، فكل نبي أدرك قوماً فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به. فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه. ولا ينهي عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوي، وسأنظر. وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعله في حُقِّ من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتباً له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت بغلة لتركبها، والسلام عليك). ولم يزد على هذا ولم يسلم، والجاريتان مارية، وسيرين، والبغلة دُلْدُل، بقيت إلى زمن معاوية ، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم مارية سرية له، وهي التي ولدت له إبراهيم. وأما سيرين فأعطاها لحسان بن ثابت الأنصاري. 3 ـ الكتاب إلى كسرى ملك فارس: وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فـارس، سـلام على من اتبع الهدي، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك). واختار لحمل هذا الكتاب عبد الله بن حذافة السهمي، فدفعه السهمي إلى عظيم البحرين، ولا ندري هل بعث به عظيم البحرين رجلاً من رجالاته، أم بعث عبد الله السهمي، وأيّا ما كان فلما قرئ الكتاب على كسرى مزقه، وقال في غطرسة: عبد حقير من رعيتي يكتب اسمه قبلي، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مزق الله ملكه)، وقد كان كما قال، فقد كتب كسرى إلى بَاذَان عامله على اليمن: ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به. فاختار باذان رجلين ممن عنده، أحدهما: قهرمانه بانويه، وكان حاسباً كاتباً بكتاب فارس. وثانيهما: خرخسرو من الفرس ، وبعثهما بكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن ينصرف معهما إلى كسري، فلما قدما المدينة، وقابلا النبي صلى الله عليه وسلم، قال أحدهما: إن شاهنشاه [ملك الملوك] كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره بأن يبعث إليك من يأتيه بك، وبعثني إليك لتنطلق معي، وقال قولاً توعده فيه، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاقياه غداً. وفي ذلك الوقت كانت قد قامت ثورة كبيرة ضد كسرى من داخل بيته بعد أن لاقت جنوده هزيمة منكرة أمام جنود قيصر، فقد قام شيرويه بن كسرى على أبيه فقتله، وأخذ الملك لنفسه، وكان ذلك في ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادي الأولي سنة سبع ، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الوحي، فلما غدوا عليه أخبرهما بذلك. فقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر، أفنكتب هذا عنك، ونخبره الملك. قال: (نعم أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى ! وينتهي إلى منتهي الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك، وملكتك على قومك من الأبناء)، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فأخبراه الخبر، وبعد قليل جاء كتاب بقتل شيرويه لأبيه، وقال له شيرويه في كتابه: انظر الرجل الذي كان كتب فيه أبي إليك، فلا تهجه حتى يأتيك أمري. وكان ذلك سبباً في إسلام باذان ومن معه من أهل فارس باليمن. 4 ـ الكتاب إلى قيصر ملك الروم: روى البخاري ـ ضمن حديث طويل ـ نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك الروم هرقل، وهو هذا: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدي، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}) [آل عمران:64]. واختار لحمل هذا الكتاب دَحْيَة بن خليفة الكلبي، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصري، ليدفعه إلى قيصر، وقد روي البخاري عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، كانوا تجاراً بالشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء ، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا ترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً، فقال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا على كذباً لكذبت عليه. ثم قال: أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ فقلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه: قلت: لا. قال: فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها ـ قال: ولم تمكنني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة ـ قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: (اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم)، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا. قلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا. فقلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.وسألتك: بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ، فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا، قال: فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كَبْشَة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر ، فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام. هذا ما رآه أبو سفيان من أثر هذا الكتاب على قيصر، وقد كان من أثره عليه أنه أجاز دحية بن خليفة الكلبي، حامل كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم بمال وكسوة، ولما كان دحية بحِسْمَي في الطريق لقيه ناس من جُذَام، فقطعوها عليه، فلم يتركوا معه شيئاً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل بيته، فأخبره، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى حسمي، وهي وراء وادي القري، في خمسمائة رجل، فشن زيد الغارة على جذام، فقتل فيهم قتلاً ذريعاً، واستاق نَعَمهم ونساءهم، فأخذ من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف، والسبي مائة من النساء والصبيان. وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قبيلة جذام موادعة، فأسرع زيد بن رِفَاعة الجذامي أحد زعماء هذه القبيلة بتقديم الاحتجاج إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أسلم هو ورجال من قومه، ونصروا دحية حين قطع عليه الطريق فقبل النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه، وأمر برد الغنائم والسبي. وعامة أهل المغازي يذكرون هذه السرية قبل الحديبية، وهو خطأ واضح، فإن بعث الكتـاب إلى قيـصر كـان بعد الحديبية ؛ ولذا قال ابن القيم: هذا بعد الحديبية بلا شك. 5 ـ الكتاب إلى المنذر بن سَاوِي: وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوي حاكم البحرين كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث إليه العلاء بن الحضرمي بذلك الكتاب، فكتب المنذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أما بعد، يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود، فأحدث إلى في ذلك أمرك]. فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد، فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطيع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيراً، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب، فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلم نعزلك عن عملك. ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية). 6 ـ الكتاب إلى هَوْذَة بن على صاحب اليمامة: وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن على صاحب اليمامة: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهي الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك). واختار لحمل هذا الكتاب سَلِيط بن عمرو العامري، فلما قدم سليط على هوذة بهذا الكتاب مختوماً أنزله وحياه، وقرأ عليه الكتاب، فرد عليه رداً دون رد، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: [ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك)، وأجاز سليطاً بجائزة، وكساه أثواباً من نسج هجر. فقدم بذلك كله على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم كتابه فقال: (لو سألني قطعة من الأرض ما فعلت، باد، وباد ما في يديه). فلما انصرف رسول الله من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبي، يقتل بعدي)، فقال قائل: يا رسول الله، من يقتله؟ فقال: (أنت وأصحابك)، فكان كذلك؟. 7 ـ الكتاب إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني صاحب دمشق: كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدق، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقي لك ملكك). واختار لحمل هذا الكتاب شجاع بن وهب من بني أسد بن خزيمة، ولما أبلغه الكتاب رمي به وقال: [من ينزع ملكي مني؟ أنا سائر إليه]، ولم يسلم. واستأذن قيصر في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فثناه عن عزمه، فأجاز الحارث شجاع بن وهب بالكسوة والنفقة، ورده بالحسني. 8 ـ الكتاب إلى ملك عُمَان: وكتب النبي صلى الله عليه وسلم كـتاباً إلى ملـك عمان جَيْفَر وأخيه عبد ابني الجُلَنْدَي، ونصه: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدي، أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما [أن تقرا بالإسلام] فإن ملككما زائل، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما). واختار لحمل هذا الكتاب عمرو بن العاص رضي الله عنه قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد ـ وكان أحلم الرجلين، وأسهلهما خلقاً ـ فقلت: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم على بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك، ثم قال: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال: يا عمرو، إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدوة. قلت: مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ووددت أنه كان أسلم وصدق به، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام. قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريباً. فسألني أين كان إسلامك؟ قلت: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم. قال: وكيف صنع قومه بملكه؟ فقلت: أقروه واتبعوه. قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم. قال: انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من الكذب. قلت: ما كذبت، وما نستحله في ديننا، ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي.قلت: بلي، قال: فبأي شيء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يخرج له خرجاً، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال: لا والله لو سألني درهما واحداً ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له اليَنَّاق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجاً، ويدين بدين غيرك ديناً محدثاً؟ قال هرقل: رجل رغب في دين، فاختاره لنفسه، ما أصنع به؟ والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع. قال: انظر ما تقول يا عمرو؟ قلت: والله صدقتك. قال عبد: فأخبرني ما الذي يأمر به وينهي عنه؟ قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل وينهي عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهي عن الظلم والعدوان، وعن الزنا، وعن الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب. قال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، لو كان أخي يتابعني عليه لركبنا حتى نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصدق به، ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنباً. قلت: إنه إن أسلم مَلَّكَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، فأخذ الصدقة من غنيهم فيردها على فقيرهم. قال: إن هذا لخلق حسن. وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات في الأموال، حتى انتهيت إلى الإبل. قال: يا عمرو، وتؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعي الشجر وترد المياه؟ فقلت: نعم، فقال: والله ما أري قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون لهذا. قال: فمكثت ببابه أياماً، وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني يوماً فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي فقال: دعوه، فأرسلت فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعوني أجلس، فنظرت إليه فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختوماً، ففض خاتمه، وقرأ حتى انتهي إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أني رأيت أخاه أرق منه، قال: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ فقلت: تبعوه، إما راغب في الدين، وإما مقهور بالسيف. قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدي الله إياهم أنهم كانوا في ضلال، فما أعلم أحداً بقي غيرك في هذه الحَرجَة، وأنت إن لم تسلم اليوم وتبعته توطئك الخيل وتبيد خضراءك، فأسلم تسلم، ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال، قال: دعني يومي هذا، وارجع إلى غداً. فرجعت إلى أخيه فقال: يا عمرو، إني لأرجو أن يسلم إن لم يَضِنَّ بملكه، حتى إذا كان الغد أتيت إليه، فأبي أن يأذن لي. فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلاً ما في يدي، وهو لاتبلغ خيله هاهنا، وإن بلغت خيله لقيت قتالاً ليس كقتال من لاقي. قلت: أنا خارج غداً، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه فقال: ما نحن فيما ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح فأرسل إلى، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعاً، وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم، وخليا بيني وبين الصدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عوناً على من خالفني. وسياق هذه القصة تدل على أن إرسال الكتاب إليهما تأخر كثيراً عن كتب بقية الملوك، والأغلب أنه كان بعد الفتح. وبهذه الكتب كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبلغ دعوته إلى أكثر ملوك الأرض، فمنهم من آمن به ومنهم من كـفر، ولكن شغل فكره هؤلاء الكافرين، وعرف لديهم باسمه ودينه | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 3:02 am | |
| النشاط العسكري بعد صلح الحديبية غزوة الغابة أو غزوة ذي قَرَد هذه الغزوة حركــة مطـاردة ضد فصيلة من بني فَزَارة قامت بعمل القرصنة في لِقَاحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، وقبل خيبر. ذكر البخاري في ترجمة باب أنها كانت قبل خيبر بثلاث، وروي ذلك مسلم مسنداً من حديث سلمة ابن الأكوع. وذكر الجمهور من أهل المغازي أنها كانت قبل الحديبية، وما في الصحيح أصح مما ذكره أهل المغازي. وخلاصة الروايات عن سلمة بن الأكوع بطل هذه الغزوة أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع غلامه رَبَاح، وأنا معه بفرس أبي طلحة، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على الظهر، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه، فقلت: يا رباح، خذ هذا الفرس فأبلغه أبا طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمت على أكَمَة، واستتقبلت المدينة، فناديت ثلاثاً: يا صباحاه، ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز، أقول: [خُذْها] أنا ابنُ الأكْـوَع ** واليـومُ يـومُ الرُّضّع فو الله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع إلى فارس جلست في أصل الشجر، ثم رميته فتعفرت به، حتى إذا دخلوا في تضايق الجبل علوته، فجعلت أرديهم بالحجارة، فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله تعالى من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحاً يستخفون، ولا يطرحون شيئاً إلا جعلت عليه آراماً من الحجارة، يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. حتى أتوا متضايقاً من ثَنِيَّةٍ، فجلسوا يتغدون، وجلست على رأس قَرْن، فصعد إلى منهم أربعة في الجبل، قلت: هل تعرفونني؟ أنا سلمة بن الأكوع، لا أطلب رجلاً منكم إلا أدركته، ولا يطلبني فيدركني، فرجعوا. فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر، فإذا أولهم أخرم، وعلى أثره أبو قتادة، وعلى أثره المقداد بن الأسود، فالتقي عبد الرحمن وأخرم، فعقر بعبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه، ولحق أبو قتادة بعبد الرحمن فطعنه فقتله، وولي القوم مدبرين، فتبعتهم أعدو على رجلي، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له: ذو قَرَد، ليشربوا منه، وهم عطاش، فأجليتهم عنه، فما ذاقوا قطرة منه، ولحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم والخيل عشاء، فقلت: يا رسول الله، إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما عندهم من السَّرْح، وأخذت بأعناق القوم، فقال: (يا بن الأكوع. ملكت فأسجح)، ثم قال: (إنهم ليقرون الآن في غطفان). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة). وأعطاني سهمين، سهم الراجل وسهم الفارس، وأردفني وراءه على العَضْبَاء راجعين إلى المدينة. استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في هذه الغزوة ابن أم مكتوم، وعقد اللواء للمقداد بن عمرو. غزوة خيبر ووادي القُري (في المحرم سنة 7 هـ) كانت خيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على بعد ثمانين ميلا من المدينة في جهة الشمال، وهي الآن قرية في مناخها بعض الوخامة. سبب الغزوة ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوي أجنحة الأحزاب الثلاثة، وهو قريش، وأمن منه تماماً بعد صلح الحديبية أراد أن يحاسب الجناحين الباقيين ـ اليهود وقبائل نجد ـ حتى يتم الأمن والسلام، ويسود الهدوء في المنطقة، ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة الله والدعوة إليه. ولما كانت خيبر هي وكرة الدس والتآمر ومركز الاستفزازات العسكرية، ومعدن التحرشات وإثارة الحروب، كانت هي الجديرة بالتفات المسلمين أولا. أما كون خيبر بهذه الصفة، فلا ننسي أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالات بالمنافقين ـ الطابور الخامس في المجتمع الإسلامي ـ وبغطفان وأعراب البادية ـ الجناح الثالث من الأحزاب ـ وكانوا هم أنفسهم يتهيأون للقتال، فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متوصلة، حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متواصلة، وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين، مثل سلام بن أبي الحُقَيْق، وأسِير بن زارم، ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك، وإنما أبطأوا في القيام بهذا الواجب ؛ لأن قوة أكبر وأقوي وألد وأعند منهم ـ وهي قريش ـ كانت مجابهة للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين، واقترب لهم يوم الحساب. الخروج إلى خيبر قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر. قال المفسرون: إن خيبر كانت وعدا وعدها الله تعالى بقوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] يعني صلح الحديبية، وبالمغانم الكثيرة خيبر. عدد الجيش الإسلامي ولما كان المنافقون وضعفاء الإيمان تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم قائلاً: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح: 15]. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى خيبر أعلن ألا يخرج معه إلا راغب في الجهاد، فلم يخرج إلا أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة. واستعمل على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَةَ الغفاري، وقال ابن إسحاق: نُمَيْلَة بن عبد الله الليثي، والأول أصح عند المحققين. وبعد خروجه صلى الله عليه وسلم قدم أبو هريرة المدينة مسلماً، فوافي سباع بن عرفطة في صلاة الصبح، فلما فرغ من صلاته أتي سباعا فزوده، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلم المسلمين فأشركوه وأصحابه في سهمانهم. اتصال المنافقين باليهود وقد قام المنافقون يعملون لليهود، فقد أرسل رأس المنافقين عبد الله بن أبي إلى يهود خيبر: إن محمداً قصد قصدكم، وتوجه إليكم، فخذوا حذركم، ولا تخافوا منه فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون، عزّل، لا سلاح معهم إلا قليل، فلما علم ذلك أهل خيبر، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وهَوْذَة بن قيس إلى غطفان يستمدونهم ؛ لأنهم كانوا حلفاء يهود خيبر، ومظاهرين لهم على المسلمين، وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن هم غلبوا المسلمين. الطريق إلى خيبر وسلك رسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه نحو خيبر جـبل عــصر ـ بالكسر، وقيل: بالتحريك ـ ثم على الصهباء، ثم نزل على واد يقال له: الرجيع، وكان بينه وبين غطفان مسيرة يوم وليلة، فتهيأت غطفان وتوجهوا إلى خيبر، لإمداد اليهود، فلما كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفهم حساً ولغطاً، فظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليهم وأموالهم فرجعوا، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدليلين اللذين كانا يسلكان بالجيش ـ وكان اسم أحدهما: حُسَيْل ـ ليدلاه على الطريق الأحسن، حتى يدخل خيبر من جهة الشمال ـ أي جهة الشام ـ فيحول بين اليهود وبين طريق فرارهم إلى الشام، كما يحول بينهم وبين غطفان. قال أحدهما: أنا أدلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل حتى انتهي إلى مفرق الطرق المتعددة وقال: يا رسول الله، هذه طرق يمكن الوصول من كل منها إلى المقصد، فأمر أن يسمها له واحداً واحداً. قال: اسم واحد منها حزن، فأبي النبي صلى الله عليه وسلم من سلوكه، قال: اسم الآخر شاش، فامتنع منه أيضاً، وقال: اسم الآخر حاطب، فامتنع منه أيضاً، قال حسيل: فما بقي إلا واحد. قال عمر: ما اسمه؟ قال: مَرْحَب، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم سلوكه. بعض ما وقع في الطريق 1 ـ عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر، ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ ـ وكان عامر رجلاً شاعراً ـ فنزل يحدو بالقوم، يقول: اللهم لولا أنت ما اهتديـنا ** ولا تَصدَّقْنا ولا صَلَّيـنـا فاغـفر فِدَاءً لك ما اقْتَفَيْنا ** وَثبِّت الأقدام إن لاقينـا وألْـقِينْ سكـينة عــلينا ** إنا إذا صِــيحَ بنا أبينــا وبالصياح عَوَّلُوا عــلينا ** فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من هذا السائق) قــالوا: عــامر بــن الأكوع، قال: (يرحمه الله): قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به. وكانوا يعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستغفر لإنسان يخصه إلا استشهد ، وقد وقع ذلك في حرب خيبر. 2 ـ وبالصهباء من أدني خيبر صلي النبي صلى الله عليه وسلم العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسَّوِيق، فأمر به فثري، فأكل وأكل الناس، ثم قام إلى المغرب، فمضمض، ومضمض الناس، ثم صلي ولم يتوضأ ، ثم صلي العشاء. 3 ـ ولما دنا من خيبر وأشرف عليها قال: (قفوا)، فوقــف الجيش، فــقال: (اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها، أقدموا، بسم الله). الجيش الإسلامي إلى أسوار خيبر وبات المسلمون الليلة الأخيرة التي بدأ في صباحها القتال قريبًا من خيبر، ولا تشعر بهم اليهود، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي قومًا بليل لم يقربهم حتى يصبح، فلما أصبح صلي الفجر بغَلَس، وركب المسلمون، فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم، ولا يشعرون، بل خرجوا لأرضهم، فلما رأوا الجيش قالوا: محمد، والله محمد والخَمِيس ، ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر، خربت خيبر، الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين). حصون خيبر وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون: 1 ـ حصن ناعم. 2 ـ حصن الصَّعْب بن معاذ. 3 ـ حصن قلعة الزبير. 4 ـ حصن أبي. 5 ـ حصن النِّزَار. والحصون الثلاثة الأولي منها كانت تقع في منطقة يقال لها: (النطاة) وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمي بالشَّقِّ. أما الشطر الثاني، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثلاثة حصون فقط: 1 ـ حصن القَمُوص [وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير]. 2 ـ حصن الوَطِيح. 3 ـ حصن السُّلالم. وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة، لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها. والقتال المرير إنما دار في الشطر الأول منها، أما الشطر الثاني فحصونها الثلاثة مع كثرة المحاربين فيها سلمت دونما قتال. معسكر الجيش الإسلامي وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اختار لمعسكره منزلاً، فأتاه حُبَاب بن المنذر، فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله، أم هو الرأي في الحرب؟ قال: (بل هو الرأي) فقال: يا رسول الله، إن هذا المنزل قريب جدًا من حصن نَطَاة، وجميع مقاتلي خيبر فيها، وهم يدرون أحوالنا، ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا، وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بياتهم، وأيضًا هذا بين النخلات، ومكان غائر، وأرض وخيمة، لو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد نتخذه معسكرًا، قال صلى الله عليه وسلم: (الرأي ما أشرت)، ثم تحول إلى مكان آخر. التهيؤ للقتال وبشارة الفتح ولما كانت ليلة الدخول ـ وقيل: بل بعد عدة محاولات ومحاربات ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، [يفتح الله على يديه ]) فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: (أين علي بن أبي طالب؟) فقالوا: يا رسول الله، هو يشتكي عينيه، قال: (فأرسلوا إليه)، فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرئ، كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، قال: (انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله، لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم). بدء المعركة وفتح حصن ناعم أما اليهود فإنهم لما رأوا الجيش وفروا إلى مدينتهم تحصنوا في حصونهم، وكان من الطبيعي أن يستعدوا للقتال. وأول حصن هاجمه المسلمون من حصونهم الثمانية هو حصن ناعم. وكان خط الدفاع الأول لليهود لمكانه الاستراتيجي، وكان هذا الحصن هو حصن مرحب البطل اليهودي الذي كان يعد بالألف. خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمسلمين إلى هذا الحصن، ودعا اليهود إلى الإسلام، فرفضوا هذه الدعوة، وبرزوا إلى المسلمين ومعهم ملكهم مرحب، فلما خرج إلى ميدان القتال دعا إلى المبارزة، قال سلمة بن الأكوع: فلما أتينا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول: قد عَلِمتْ خيبر أني مَرْحَب ** شَاكِي السلاح بطل مُجَرَّب إذا الحروب أقبلتْ تَلَهَّب ** فبرز له عمي عامر فقال: قد علمت خيبر أني عامر ** شاكي السلاح بطل مُغَامِر فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عمي عامر، وذهب عامر يسفل له، وكان سيفه قصيرًا، فتناول به ساق اليهودي ليضربه، فيرجع ذُبَاب سيفه فأصاب عين ركبته فمات منه، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن له لأجرين ـ وجمع بين إصبعيه ـ إنه لجَاهِدٌ مُجَاهِد، قَلَّ عربي مَشَي بها مِثْلَه). ويبدو أن مرحبًا دعا بعد ذلك إلى البراز مرة أخري وجعل يرتجز بقوله: قد علمت خيبر أني مرحب... إلخ، فبرز له على بن أبي طالب. قال سلمة ابن الأكوع: فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حَيْدَرَهْ ** كلَيْثِ غابات كَرِيه المَنْظَرَهْ أُوفِيهم بالصَّاع كَيْل السَّنْدَرَهْ ** فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه. ولما دنا علي رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصن، وقال: من أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى. ثم خرج ياسر أخو مرحب، وهو يقول: من يبارز؟ فبرز إليه الزبير، فقالت صفية أمه: يا رسول الله، يقتل ابني، قال: (بل ابنك يقتله)، فقتله الزبير. ودار القتال المرير حول حصن ناعم، قتل فيه عدة سراة من اليهود، انهارت لأجله مقاومة اليهود، وعجزوا عن صد هجوم المسلمين، ويؤخذ من المصادر أن هذا القتال دام أيامًا لاقي المسلمون فيها مقاومة شديدة، إلا أن اليهود يئسوا من مقاومة المسلمين، فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن الصَّعْب، واقتحم المسلمون حصن ناعم. فتح حصن الصعب بن معاذ وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم، قام المسلمون بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري، ففرضوا عليه الحصار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح هذا الحصن دعوة خاصة. روي ابن إسحاق أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لقد جهدنا، وما بأيدينا من شيء، فقال: (اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غَنَاء، وأكثرها طعامًا ووَدَكًا). فغدا الناس ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه. ولما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا الحصن كان بنو أسلم هم المقاديم في المهاجمة، ودار البراز والقتال أمام الحصن، ثم فتح الحصن في ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس، ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات. ولأجل هذه المجاعة الشديدة التي ورد ذكرها في رواية ابن إسحاق، كان رجال من الجيش قد ذبحوا الحمير، ونصبوا القدور على النيران، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك نهي عن لحوم الحمر الإنسية. فتح قلعة الزبير وبعد فتح حصن ناعم والصعب تحول اليهود من كل حصون النَّطَاة إلى قلعة الزبير، وهو حصن منيع في رأس قُلَّةٍ ، لا تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته وامتناعه، ففرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحصار، وأقام محاصرًا ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود، وقال: يا أبا القاسم، إنك لو أقمت شهرًا ما بالوا، إن لهم شرابًا وعيونًا تحت الأرض، يخرجون بالليل ويشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك. فقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، قتل فيه نفر من المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتح قلعة أبي وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أبي وتحصنوا فيه، وفرض المسلمون عليهم الحصار، وقام بطلان من اليهود واحد بعد الآخر بطلب المبارزة، وقد قتلهما أبطال المسلمين، وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة الأنصاري صاحب العصابة الحمراء. وقد أسرع أبو دجانة بعد قتله إلى اقتحام القلعة، واقتحم معه الجيش الإسلامي، وجري قتال مرير ساعة داخل الحصن، ثم تسلل اليهود من القلعة، وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن في الشطر الأول. فتح حصن النَّزَار كان هذا الحصن أمنع حصون هذا الشطر، وكان اليهود على شبه اليقين بأن المسلمين لا يستطيعون اقتحام هذه القلعة، وإن بذلوا قصاري جهدهم في هذا السبيل، ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع الذراري والنساء، بينما كانوا قد أخلوا منها القلاع الأربعة السابقة. وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار، وصاروا يضغطون عليهم بعنف، ولكون الحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيلا للاقتحام فيه. أما اليهود فلم يجترئوا للخروج من الحصن، وللاشتباك مع قوات المسلمين، ولكنهم قاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء الحجارة. وعندما استعصى حصن النزار على قوات المسلمين، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنصب آلات المنجنيق، ويبدو أن المسلمين قذفوا به القذائف، فأوقعوا الخلل في جدران الحصن، واقتحموه، ودار قتال مرير في داخل الحصن انهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة، وذلك لأنهم لم يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الأخري، بل فروا من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم. وبعد فتح هذا الحصن المنيع تم فتح الشطر الأول من خيبر، وهي ناحية النَّطَاة والشَّقِّ، وكانت في هذه الناحية حصون صغيرة أخري إلا أن اليهود بمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذه الحصون، وهربوا إلى الشطر الثاني من بلدة خيبر. فتح الشطر الثاني من خيبر ولما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح ناحية النطاة والشق، تحول إلى أهل الكتيبة التي بها حصن القَمُوص: حصن بني أبي الحُقَيْق من بني النضير، وحصن الوَطِيح والسُّلالم، وجاءهم كل فَلِّ كان انهزم من النطاة والشق، وتحصن هؤلاء أشد التحصن. واختلف أهل المغازي هل جري هناك قتال في أي حصن من حصونها الثلاثة أم لا؟ فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص، بل يؤخذ من سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للاستسلام. أما الواقدي، فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاث إنما أخذت بعد المفاوضة، ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارة القتال، وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال. ومهما كان، فلما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الناحية ـ الكتيبة ـ فرض على أهلها أشد الحصار، ودام الحصار أربعة عشر يومًا، واليهود لا يخرجون من حصونهم، حتى همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليهم المنجنيق، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح. المفاوضة وأرسل ابن أبي الحُقَيْق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل فأكلمك؟ قال: (نعم)، فنزل، وصالح على حقن دماء مَنْ في حصونهم من المقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء ـ أي الذهب والفضة ـ والكُرَاع والْحَلْقَة إلا ثوبًا على ظهر إنسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا)، فصالحوه على ذلك ، وبعد هذه المصالحة تم تسليم الحصون إلى المسلمين، وبذلك تم فتح خيبر. قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد وعلى رغم هذه المعاهدة غيب ابنا أبي الحقيق مالا كثيرا، غيبا مَسْكًا فيه مال وحُلُي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير. قال ابن إسحاق: وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكِنَانة الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأتي رجل من اليهود فقال: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: (أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟) قال: نعم، فأمر بالخربة، فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي، فأبي أن يؤديه. فدفعه إلى الزبير، وقال: عذبه حتى نستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بمحمود بن مسلمة ـ وكان محمود قتل تحت جدار حصن ناعم، ألقي عليه الرحي، وهو يستظل بالجدار فمات ـ. وذكر ابن القيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابني أبي الحقيق، وكان الذي اعترف عليهما بإخفاء المال هو ابن عم كنانة. وسبي رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، وكانت عروسًا حديثة عهد بالدخول. قسمة الغنائم وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلي اليهود من خيبر، فقالوا: يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض، نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون حتى يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر، ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم، وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم. وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم، لنوائبه وما يتنزل به من أمور المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب، وكانوا ألفا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم، فصار للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد. ويدل على كثرة مغانم خيبر ما رواه البخاري عن ابن عمر قال: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر، وما رواه عن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر ، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مال ونخيل. قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعريين وفي هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه، ومعهم الأشعريون أبو موسى وأصحابه. قال أبو موسي: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه ـ أنا وأخوان لي ـ في بضع وخمسين رجلاً من قومي، ركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفرًا وأصحابه عنده، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد معه، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم. ولما قدم جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه وقَبَّلَ ما بين عينيه وقال: (والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر). وكان قدوم هؤلاء على أثر بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري يطلب توجيههم إليه، فأرسلهم النجاشي على مركبين، وكانوا ستة عشر رجلاً، معهم من بقي من نسائهم وأولادهم، وبقيتهم جاءوا إلى المدينة قبل ذلك. الزواج بصفية ذكرنا أن صفية جعلت في السبايا حين قتل زوجها كِنَانة بن أبي الحقيق لغدره، ولما جمع السبي جاء دحية بن خليفة الكلبي، فقال: يا نبي الله، أعطني جارية من السبي، فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة وبني النضير، لا تصلح إلا لك، قال: (ادعوه بها). فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذ جارية من السبي غيرها)، وعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت، فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، حتى إذا كان بسد الصهباء راجعًا إلى المدينة حلت، فجهزتها له أم سليم، فأهدتها له من الليل، فأصبح عروسًا بها، وأولم عليها بحيس من التمر والسمن والسَّوِيق، وأقام عليها ثلاثة أيام في الطريق يبني بها. ورأى بوجهها خضرة، فقال: (ما هذا؟) قالت: يا رسول الله، رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه، وسقط في حجري، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئا، فقصصتها على زوجي، فلطم وجهي. فقال: تمنين هذا الملك الذي بالمدينة. أمر الشاة المسمومة ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد فتحها أهدت له زينب بنت الحارث، امرأة سَلاَّم بن مِشْكَم، شاة مَصْلِيَّةً، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع، فَلاَكَ منها مضغة فلم يسغها، ولفظها، ثم قال: (إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم)، ثم دعا بها فاعترفت، فقال: (ما حملك على ذلك؟) قالت: قلت: إن كان ملكًا استرحت منه، وإن كان نبيًا فسيخبر، فتجاوز عنها. وكان معه بِشْر بن البراء بن مَعْرُور، أخذ منها أكلة فأساغها، فمات منها. واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها، وجمعوا بأنه تجاوز عنها أولا، فلما مات بشر قتلها قصاصا. قتلى الفريقين في معارك خيبر وجملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رجلاً، أربعة من قريش وواحد من أشْجَع، وواحد من أسْلَم، وواحد من أهل خيبر والباقون من الأنصار. ويقال: إن شهداء المسلمين في هذه المعارك 81 رجلاً. وذكر العلامة المنصورفوري 91 رجلاً، ثم قال: إني وجدت بعد التفحص 32 اسما، واحد منها في الطبري فقط، وواحد عند الواقدي فقط، وواحد مات لأجل أكل الشاة المسمومة، وواحد اختلفوا هل قتل في بدر أو خيبر، والصحيح أنه قتل في بدر. أما قتلي اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلاً. فَـدَك ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، بعث مُحَيِّصَة بن مسعود إلى يهود فَدَك، ليدعوهم إلى الإسلام، فأبطأوا عليه، فلما فتح الله خيبر قذف الرعب في قلوبهم، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصالحونه على النصف من فدك بمثل ما عامل عليه أهل خيبر، فقبل ذلك منهم، فكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة؛ لأنه لم يُوجِف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب. وادي القُرَي ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، انصرف إلى وادي القري، وكان بها جماعة من اليهود، وانضاف إليهم جماعة من العرب. فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي، وهم على تعبئة، فقتل مِدْعَم ـ عَبْدٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلا، والذي نفسي بيده، إن الشَّمْلَة التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارًا)، فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشِرَاك أو شراكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (شراك من نار أو شراكان من نار). ثم عَبَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال، وصَفَّهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، وراية إلى الحُبَاب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حُنَيْف، وراية إلى عباد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، وبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً، كلما قتل منهم رجل دعا من بقي إلى الإسلام. وكانت الصلاة تحضر هذا اليوم، فيصلي بأصحابه، ثم يعود، فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا ما بأيديهم، وفتحها عنوة، وغَنَّمَهُ اللهُ أموالهم، وأصابوا أثاثا ومتاعًا كثيرًا. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القري أربعة أيام. وقسم على أصحابه ما أصاب بها، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليها ـ كما عامل أهل خيبرـ. تَيْمَـــاء ولما بلغ يهود تيماء خبر استسلام أهل خيبر ثم فَدَك ووادي القُرَي، لم يبدوا أي مقاومة ضد المسلمين، بل بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون الصلح، فقبل ذلك منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بأموالهم. وكتب لهم بذلك كتابا وهاك نصه: هذا كتاب محمد رسول الله لبني عاديا، أن لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء، الليل مد، والنهار شد، وكتب خالد بن سعيد. العودة إلى المدينة ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العودة إلى المدينة، وفي الطريق أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصَمَّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا). وفي مرجعه ذلك سار النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، ثم نام في آخر الليل ببعض الطريق، وقال لبلال: (اكلأ لنا الليل)، فغلبت بلالاً عيناه، وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ أحد، حتى ضربتهم الشمس، وأول من استيقظ بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج من ذلك الوادي، وتقدم، ثم صلي الفجر بالناس، وقيل: إن هذه القصة في غير هذا السفر. وبعد النظر في تفصيل معارك خيبر، يبدو أن رجوع النبي صلى الله عليه وسلم كان في أواخر صفر أو في ربيع الأول سنة 7 هـ.
سرية أبَان بن سعيد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أكثر من كل قائد عسكري أن إخلاء المدينة تماما بعد انقضاء الأشهر الحرم ليس من الحزم قطعًا، بينما الأعراب ضاربة حولها، تطلب غرة المسلمين للقيام بالنهب والسلب وأعمال القرصنة ؛ ولذلك أرسل سرية إلى نجد لإرهاب الأعراب تحت قيادة أبان بن سعيد، بينما كان هو إلى خيبر، وقد رجع أبان بن سعيد بعد قضاء ما كان واجبًا عليه، فوافي النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، وقد افتتحها. والأغلب أن هذه السرية كانت في صفر سنة 7هـ، وقد ورد ذكرها في البخاري. قال ابن حجر: لم أعرف حال هذه السرية. | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 3:14 am | |
| بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة غزوة ذات الرِّقَاع ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كسر جناحين قويين من أجنحة الأحزاب الثلاثة تفرغ تمامًا للالتفات إلى الجناح الثالث، أي إلى الأعراب القساة الضاربين في فيافي نجد، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة وأخري. ولما كان هؤلاء البدو لا تجمعهم بلدة أو مدينة، ولم يكونوا يقطنون الحصون والقلاع، كانت الصعوبة في فرض السيطرة عليهم وإخماد نار شرهم تمامًا تزداد بكثير عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر ؛ ولذلك لم تكن تجدي فيهم إلا حملات التأديب والإرهاب، وقام المسلمون بمثل هذه الحملات مرة بعد أخري. ولفرض الشوكة ـ أو لاجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للإغارة على أطراف المدينة ـ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحملة تأديبية عرفت بغزوة ذات الرقاع. وعامة أهل المغازي يذكرون هذه الغزوة في السنة الرابعة، ولكن حضور أبي موسي الأشعري وأبي هريرة رضي الله عنهما في هذه الغزوة يدل على وقوعها بعد خيبر، والأغلب أنها وقعت في شهر ربيع الأول سنة 7 هـ. وملخص ما ذكره أهل السير حول هذه الغزوة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع باجتماع بني أنمار أو بني ثعلبة وبني مُحَارِب من غطفان، فأسرع بالخروج إليهم في أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه، واستعمل على المدينة أبا ذر أو عثمان بن عفان رضي الله عنهما، وسار فتوغل في بلادهم حتى وصل إلى موضع يقال له: نخل، على بعد يومين من المدينة، ولقي جمعاً من غطفان، فتقاربوا وأخاف بعضهم بعضاً ولم يكن بينهم قتال، إلا أنه صلي بهم يومئذ صلاة الخوف.وفي رواية البخاري: وأقيمت الصلاة فصلي بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلي بالطائفة الأخري ركعتين، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع، وللقوم ركعتان. وفي البخاري عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنهم قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع، لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا. وفيه عن جابر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة، فجاء رجل من المشركين: فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتخافني؟ قال: (لا)، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: (الله). قال جابر: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئنا، فإذا عنده أعرابي جالس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا. فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فها هو ذا جالس)، ثم لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية أبي عوانة: فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (من يمنعك مني؟) قال: كـن خـير آخـذ، قال: (تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟) قال الأعرابي: أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلي سبيله، فجاء إلى قومه، فقال: جئتكم من عند خير الناس. وفي رواية البخاري: قال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل غَوْرَث ابن الحارث.قال ابن حجر: ووقع عند الواقدي في سبب هذه القصة: أن اسم الأعرابي دُعْثُور، وأنه أسلم، لكن ظاهر كلامه أنهما قصتان في غزوتين. والله أعلم. وفي مرجعهم من هذه الغزوة سبوا امرأة من المشركين، فنذر زوجها ألا يرجع حتى يهريق دماً في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء ليلاً، وقد أرصد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين رَبِيئة للمسلمين من العدو، وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر، فضرب عباداً، وهو قائم يصلي، بسهم فنزعه، ولم يبطل صلاته، حتى رشقه بثلاثة أسهم، فلم ينصرف منها حتى سلم، فأيقظ صاحبه، فقال: سبحان الله! هلا نبهتني، فقال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها. كان لهذه الغزوة أثر في قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة، وإذا نظرنا إلى تفاصيل السرايا بعدالغزوة نري أن هذه القبائل من غطفان لم تجترئ أن ترفع رأسها بعد هذه الغزوة، بل استكانت شيئاً فشيئاً حتى استسلمت، بل وأسلمت، حتى نري عدة قبائل من هذه الأعراب تقوم مع المسلمين في فتح مكة، وتغزو حُنَيْناً، وتأخذ من غنائمها، ويبعث إليها المصدقون فتعطي صدقاتها بعد الرجوع من غزوة الفتح، فبهذا تم كسر الأجنحة الثلاثة التي كانت ممثلة في الأحزاب، وساد المنطقة الأمن والسلام، واستطاع المسلمون بعد ذلك أن يسدوا بسهولة كل خلل وثلمة حدثت في بعض المناطق من بعض القبائل، بل بعد هذه الغزوة بدأت التمهيدات لفتوح البلدان والممالك الكبيرة ؛ لأن الظروف في داخل البلاد كانت قد تطورت لصالح الإسلام والمسلمين. وبعد الرجوع من هذه الغزوة أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شوال سنة 7 هـ. وبعث في خلال ذلك عدة سرايا. وهاك بعض تفصيلها: 1 ـ سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوَّح بُقدَيْد، في صفر أو ربيع الأول سنة 7 هـ. كان بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سُوَيْد، فبعثت هذه السرية لأخذ الثأر، فشنوا الغارة في الليل فقتلوا من قتلوا، وساقوا النعم، وطاردهم جيش كبير من العدو، حتى إذا قرب من المسلمين نزل مطر، فجاء سيل عظيم حال بين الفريقين. ونجح المسلمون في بقية الانسحاب. 2 ـ سرية حِسْمَي، في جمادي الثانية سنة 7 هـ، وقد مضي ذكرها في مكاتبة الملوك. 3 ـ سرية عمر بن الخطاب إلى تُرَبَة، في شعبان سنة 7 هـ، ومعه ثلاثون رجلاً. كانوا يسيرون الليل ويستخفون في النهار، وأتي الخبر إلى هوازن فهربوا، وجاء عمر إلى محالهم فلم يلق أحداً، فانصرف راجعاً إلى المدينة. 4 ـ سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بناحية فَدَك، في شعبان سنة 7هـ في ثلاثين رجلاً. خرج إليهم واستاق الشاء والنعم، ثم رجع فأدركه الطلب عند الليل، فرموهم بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه، فقتلوا جميعاً إلا بشير، فإنه ارْتُثَّ إلى فدك، فأقام عند يهود حتى برأت جراحه، فرجع إلى المدينة. 5 ـ سرية غالب بن عبد الله الليثي، في رمضان سنة 7 هـ إلى بني عُوَال وبني عبد ابن ثعلبة بالمَيْفَعَة، وقيل إلى الحُرَقَات من جُهَيْنَة، في مائة وثلاثين رجلاً، فهجموا عليهم جميعاً، وقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء، وفي هذه السرية قتل أسامةُ بن زيد نَهِيكَ بن مِرْدَاس بعد أن قال: لا إله إلا الله، فلما قدموا وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، كبر عليه وقال: (أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟) فقال: إنما قالها متعوذاً قال: (فهلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟). 6 ـ سرية عبد الله بن رواحة إلى خيبر، في شوال سنة 7 هـ في ثلاثين راكبًا. وذلك أن أسِير أو بشير بن زارم كان يجمع غطفان لغزو المسلمين، فأخرجوا أسيرًا في ثلاثين من أصحابه، وأطمعوه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستعمله على خيبر، فلما كانوا بقَرْقَرَة نِيَار وقع بين الفريقين سوء ظن أفضي إلى قتل أسير وأصحابه الثلاثين. ذكر الواقدي هذه السرية في شوال سنة ست قبل خيبر بأشهر. 7 ـ سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجَبار [بالفتح، أرض لغطفان، وقيل: لفَزَارَة وعُذْرَة]، في شوال سنة 7 هـ في ثلاثمائة من المسلمين، للقاء جمع كبير تجمعوا للإغارة على أطراف المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا، وأصاب بشير نعما كثيرة، وأسر رجلين، فقدم بهما المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما. 8 ـ سرية أبي حَدْرَد الأسلمي إلى الغابة، ذكرها ابن القيم في سرايا السنة السابعة قبل عمرة القضاء، وملخصها: أن رجلا من جُشَم بن معاوية أقبل في عدد كبير إلى الغابة، يريد أن يجمع قيسًا على محاربة المسلمين. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حدرد مع رجلين ليأتوا منه بخبر وعلم، فوصلوا إلى القوم مع غروب الشمس، فكمن أبو حدرد في ناحية، وصاحباه في ناحية أخري، وأبطأ على القوم راعيهم حتى ذهبت فحمة العشاء، فقام رئيس القوم وحده، فلما مر بأبي حدرد رماه بسهم في فؤاده فسقط ولم يتكلم، فاحتز أبو حدرد رأسه، وشد في ناحية العسكر، وكبر، وكبر صاحباه وشدا، فما كان من القوم إلا الفرار، واستاق المسلمون الثلاثة الكثير من الإبل والغنم. | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 3:16 am | |
| عمرة القضاء قال الحاكم: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما هَلَّ ذو القعدة أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم، وألا يتخلف منهم أحد شهد الحديبية، فخرجوا إلا من استشهد، وخرج معه آخرون معتمرين، فكانت عدتهم ألفين سوي النساء والصبيان. ا هـ. واستخلف على المدينة عُوَيف بن الأضْبَط الدِّيلي، أو أبا رُهْم الغفاري، وساق ستين بدنة، وجعل عليها ناجية بن جُنْدُب الأسلمي، وأحرم للعمرة من ذي الحُلَيْفَة، ولبي، ولبي المسلمون معه، وخرج مستعداً بالسلاح والمقاتلة، خشية أن يقع من قريش غدر، فلما بلغ يَأجُج وضع الأداة كلها: الحَجَف والمِجَانّ والنَّبْل والرِّماح، وخلف عليها أوس بن خَوْلِي الأنصاري في مائتي رجل، ودخل بسلاح الراكب: السيوف في القُرُب. وكان رسول اللهصلى الله عليه وسلم عند الدخول راكباً على ناقته القَصْواء، والمسلمون متوشحون السيوف، محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون. وخـرج المشركـون إلى جبل قُعَيْقِعَان ـ الجبل الذي في شمال الكعبة ـ ليروا المسلمين، وقد قالوا فيما بينهم: إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمي يثرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين. ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم، وإنما أمرهم بذلك ليري المشركين قوته كما أمرهم بالاضطباع، أي أن يكشفوا المناكب اليمني، ويضعوا طرفي الرداء على اليسري. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الثنية التي تطلعه على الحَجُون ـ وقد صف المشركون ينظرون إليه ـ فلم يزل يلبي حتى استلم الركن بمِحْجَنِه، ثم طاف، وطاف المسلمون، وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتجز متوشحاً بالسيف: وفي حديث أنس فقال عمر: يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (خَلِّ عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل). ورَمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ثلاثة أشواط، فلما رآهم المشركون قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمي قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. ولما فرغ من الطواف سعي بين الصفا والمروة، فلما فرغ من السعي، وقد وقف الهدي عند المروة، قال: (هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر)، فنحر عند المروة، وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون، ثم بعث ناساً إلى يَأْجُج، ليقيموا على السلاح، ويأتي الآخرون فيقضون نسكهم ففعلوا. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً، فلما أصبح من اليوم الرابع أتوا علياً فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضي الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل بسَرِف فأقام بها. ولما أراد الخروج من مكة تبعتهم ابنة حمزة، تنادى، يا عم يا عم، فتناولها علي، واختصم فيها على وجعفر وزيد، فقضي النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر ؛ لأن خالتها كانت تحته. وفي هذه العمرة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث العامرية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الدخول في مكة بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة، فجعلت أمرها إلى العباس، وكانت أختها أم الفضل تحته، فزوجها إياه، فلما خرج من مكة خلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمشي، فبني بها بسرف. وسميت هذه العمرة بعمرة القضاء ؛ إما لأنها كانت قضاء عن عمرة الحُدَيْبِيَة، أو لأنها وقعت حسب المقاضاة ـ أي المصالحة ـ التي وقعت في الحديبية، والوجه الثاني رجحه المحققون، وهذه العمرة تسمي بأربعة أسماء: القضاء، والقَضِيَّة، والقصاص، والصُّلح. وقــد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الرجـوع مـن هذه العمرة عدة سرايا، وهي كما يلي: 1 ـ سرية ابن أبي العوجاء، في ذي الحجة سنة 7 هـ في خمسين رجلاً. بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني سُلَيْم ؛ ليدعوهم إلى الإسلام، فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا، ثم قاتلوا قتالاً شديداً. جرح فيه أبو العوجاء، وأسر رجلان من العدو. 2 ـ سرية غالب بن عبد الله إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفَدَك، في صفر سنة 8 هـ. بعث في مائتي رجل، فأصابوا من العدو نعما، وقتلوا منهم قتلي. 3 ـ سرية ذات أطلح في ربيع الأول سنة 8 هـ. كانت بنو قُضَاعَة قد حشدت جموعاً كبيرة للإغارة على المسلمين، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الأنصاري في خمسة عشر رجلاً، فلقوا العدو، فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهـم، وأرشقوهم بالنبل حتى استشهد كلهم إلا رجل واحد، فقد ارْتُثَّ من بين القتلي. 4 ـ سرية ذات عِرْق إلى بني هوازن، في ربيع الأول سنة 8 هـ. كانت بنو هوازن قد أمدت الأعداء مرة بعد أخري فأرسل إليها شُجَاع بن وهب الأسدي في خمسة وعشرين رجلاً، فاستاقوا نَعَما من العدو، ولم يلقوا كيداً.معركة مؤتة وهذه المعركة أكبر لقاء مُثْخِن، وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان النصاري، وقعت في جمادي الأولي سنة 8 هـ، وفق أغسطس أو سبتمبر سنة 926 م. ومؤتة (بالضم فالسكون) هي قرية بأدني بلقاء الشام، بينها وبين بيت المقدس مرحلتان. سبب المعركة وسبب هذه المعركة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بُصْرَي. فعرض له شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني ـ وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر ـ فأوثقه رباطاً، ثم قدمه، فضرب عنقه. وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نقلت إليه الأخبار، فجهز إليهم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب. أمراء الجيش ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة، وقال: (إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة) ، وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة. وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا مَنْ هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم، وقاتلوهم، وقال لهم: (اغزوا بسم الله، في سبيل الله، مَنْ كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناء). توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد الله بن رواحة ولما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس، وودعوا أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلموا عليهم، وحينئذ بكي أحد أمراء الجيش ـ عبد الله بن رواحة ـ فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار:{وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} [مريم:71]، فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين غانمين، فقال عبد الله بن رواحة: لكنني أسأل الرحمن مغفــرة ** وضربة ذات فرع تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجـهزة ** بحربة تنفذ الأحشـاء والكبدا حتى يقال إذا مروا على جدثي ** أرشده الله من غاز وقد رشدا ثم خرج القوم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودّعهم. تحرك الجيش الإسلامي، ومباغتته حالة رهيبة وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل مَعَان، من أرض الشام، مما يلي الحجاز الشمإلى، وحينئذ نقلت إليهم الاستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لَخْم وجُذَام وبَلْقَيْن وبَهْرَاء وبَلِي مائة ألف. المجلس الاستشاري بمَعَان لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم ـ الذي بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة ـ وهل يهجم جيش صغير، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فحسب، على جيش كبير عرمرم مثل البحر الخضم، قوامه مائتا ألف مقاتل؟ حار المسلمون، وأقاموا في مَعَان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون، ثم قالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي، وشجع الناس، قائلاً: يا قوم، والله إن التي تكرهون لَلَّتِي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدي الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة. وأخيراً استقر الرأي على ما دعا إليه عبد الله بن رواحة. الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو وحينئذ بعد أن قضي الجيش الإسلامي ليلتين في معان، تحركوا إلى أرض العدو، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها: [َشَارِف] ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتعبأوا للقتال، فجعلوا على ميمنتهم قُطْبَة بن قتادة العُذْرِي، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري. بداية القتال، وتناوب القواد وهناك في مؤتة التقي الفريقان، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل. معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب. أخذ الراية زيد بن حارثة ـ حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وجعل يقاتل بضراوة بالغة، وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال الإسلام، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم، وخر صريعاً. وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعاً إياها حتى قتل. يقال: إن رومياً ضربه ضربةً قطعته نصفين، وأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة، يطير بهما حيث يشاء ؛ ولذلك سمي بجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين. روى البخاري عن نافع؛ أن ابن عمر أخبره: أنه وقف على جعفر يؤمئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره، يعني ظهره. وفي رواية أخري قال ابن عمر: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلي، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية. وفي رواية العمري عن نافع زيادة: [فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده]. ولما قتل جعفر بعد أن قاتل بمثل هذه الضراوة والبسالة، أخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، حتى حاد حيدة ثم قال: ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعَرْق من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نَهْسَة، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل. الراية إلى سيف من سيوف الله وحينئذ تقدم رجل من بني عَجْلان ـ اسمه ثابت بن أقرم ـ فأخذ الراية وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالاً مريراً، فقد روي البخاري عن خالد بن الوليد قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية. وفي لفظ آخر: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة ـ مخبراً بالوحي، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم). نهاية المعركة ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة المريرتين، كان مستغرباً جداً أن ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أما تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوش الروم. ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين مما ورطوا أنفسهم فيه. واختلفت الروايات كثيراً فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيراً. ويظهر بعد النظر في جميع الروايات أن خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار، في أول يوم من القتال. وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة. فقد كـان يعرف جيداً أن الإفلات من براثنهم صعب جداً لو انكشف المسلمون، وقام الرومان بالمطاردة. فلما أصبح اليوم الثاني غير أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمته ساقه، وميمنته ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم، وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا، وصار خالد ـ بعد أن تراءي الجيشان، وتناوشا ساعة ـ يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان ظناً منهم أن المسلمين يخدعونهم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء. وهكذا انحاز العدو إلى بلاده، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين ونجح المسلمون في الانحياز سالمين، حتى عادوا إلى المدينة. قتلى الفريقين واستشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلاً، أما الرومان، فلم يعرف عدد قتلاهم، غير أن تفصيل المعركة يدل على كثرتهم. أثر المعركة وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر، الذي عانوا مرارتها لأجله، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، إنها ألقت العرب كلها في الدهشة والحيرة، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن معني جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظِّلْف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير ـ ثلاثة آلاف مقاتل ـ مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير ـ مائتا ألف مقاتل ـ ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر. كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند الله، وأن صاحبهم رسول الله حقاً. ولذلك نري القبائل اللدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سُلَيْم وأشْجَع وغَطَفَان وذُبْيَان وفَزَارَة وغيرها. وكانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان، فكانت توطئة وتمهيداً لفتوح البلدان الرومانية، واحتلال المسلمين الأراضي البعيدة النائية. سرية ذات السَّلاسِل ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقف القبائل العربية ـ التي تقطن مشارف الشام ـ في معركة مؤتة من اجتماعهم إلى الرومان ضد المسلمين، شعر بمسيس الحاجة إلى القيام بحكمة بالغة توقع الفرقة بينها وبين الرومان، وتكون سبباً للائتلاف بينها وبين المسلمين، حتى لا تتحشد مثل هذه الجموع الكبيرة مرة أخري. واختار لتنفيذ هذه الخطة عمرو بن العاص ؛ لأن أم أبيه كانت امرأة من بَلِي. فبعثه إليهم في جمادي الآخرة سنة 8 هـ على إثر معركة مؤتة ؛ ليستألفهم، ويقال: بل نقلت الاستخبارات أن جمعاً من قُضَاعَة قد تجمعوا، يريدون أن يدنوا من أطراف المدينة، فبعثه إليه، ويمكن أن يكون السببان اجتمعا معاً. وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار، ومعهم ثلاثون فرساً، وأمره أن يستعين بمن مر به من بَلِي وعُذْرَةَ وبَلْقَيْنِ. فسار الليل وَكمَنَ النهار، فلما قرب من القوم بلغه أن لهم جمعاً كثيراً، فبعث رافع بن مَكِيثٍ الجُهَنِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين، وعقد له لواء، وبعث له سراة المهاجرين والأنصار ـ فيهم أبو بكر وعمر ـ وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعاً ولا يختلفا. فلما لحق به أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس، فقال عمرو: إنما قدمت على مددا، وأنا الأمير، فأطاعه أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس. وسار حتى وطئ بلاد قُضَاعَة، فدوخها حتى أتي أقصي بلادهم، ولقي في آخر ذلك جمعاً، فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا. وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقفولهم وسلامتهم، وما كان في غزاتهم. وذات السلاسل [بضم السين الأولي وفتحها: لغتان] بقعة وراء وادي القُرَي، بينها وبين المدينة عشرة أيام. وذكر ابن إسحاق أن المسلمين نزلوا على ماء بأرض جُذَام يقال له: السلسل، فسمي ذات السلاسل. سرية أبي قتادة إلى خضرة كانت هذه السرية في شعبان سنة 8 هـ ؛ وذلك لأن بني غَطَفَان كانوا يتحشدون في خَضِرَة ـ وهي أرض مُحَارِب بنَجْد ـ فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة في خمسة عشر رجلاً، فقتل منهم، وسَبَي وغنم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة. | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 3:29 am | |
| غزوة فتح مكة قال ابن القيم: هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمـين، واستنقذ به بلــده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر بـه أهـل السمـاء، وضـربت أطناب عِزِّه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به فــي ديــن الله أفواجـاً، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً ا. هـ. سبب الغزوة قدمنا في وقعة الحديبية أن بنداً من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق. وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخري، وقد كانت بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر ـ اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فخرج نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8 هـ، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له: [الوَتِير] فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم. فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي، وإلى دار مولي لهم يقال له: رافع. وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت يا عمرو بن سالم)، ثم عرضت له سحابة من السماء، فقال: (إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب). ثم خرج بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة. أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق، لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً لها ليقوم بتجديد الصلح. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم. قال: (كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقْدَ، ويزيد في المدة). وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بعُسْفَان ـ وهو راجع من المدينة إلى مكة ـ فقال: من أين أقبلت يا بديل؟ ـ وظن أنه أتي النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوي، فأتي مبرك راحلته، فأخذ من بعرها، ففته، فرأي فيها النوي، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً. وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج حتى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتي عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به، ثم جاء فدخل على على بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن، غلام يدب بين يديهما، فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلى بن أبي طالب في هلع وانزعاج ويأس وقنوط: يا أبا الحسن، إني أري الأمور قد اشتدت علي، فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك. ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الْحَقْ بأرضك. قال: أو تري ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، وانطلق. ولما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد على شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدني العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار على بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك. قال: لا والله ما وجدت غير ذلك. التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال: يابنية، ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما أدري. فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟ قالت: والله لا علم لي، وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً، وارتجز: يا رب إني ناشد محمداً... الأبيات. فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل، ثم أبو سفيان، وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وقال: (اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها). وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قوامها ثمانية رجال، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبْعِي، إلى بطن إضَم، فيما بين ذي خَشَب وذي المروة، على ثلاثة بُرُد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ ؛ ليظن الظان أنه صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته. وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والمقداد والزبير بن العوام وأبا مَرْثَد الغَنَوِي فقال: (انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ خَاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش)، فانطلقوا تعادي بهم خيلهم حتى وجدوا المرأة بذلك المكان، فاستنـزلوها، وقالوا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً. فقال لها علي: أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش) يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، فقال: (ما هذا يا حطب؟) فقال: لا تَعْجَلْ على يا رسول الله. والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ مُلْصَقـًا في قريش ؛ لست من أنْفَسِهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك له قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فذَرَفَتْ عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم. وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال. الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك 8 هـ، غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة متجهاً إلى مكــة، في عشرة ألاف من الصحابة رضي الله عنهم، واستخـلف على المدينة أبا رُهْم الغفاري. ولما كان بالجُحْفَة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، ثم لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذي والهجو، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك. وقال على لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91]، فإنه لا يرضي أن يكون أحد أحسن منه قولاً. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]، فأنشده أبو سفيان أبياتاً منها: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: (أنتَ طَرَّدْتَنِي كل مُطَرَّد؟). الجيش الإسلامي ينزل بمَرِّ الظَّهْرَان وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ الكُدَيْد ـ وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر، وأفطر الناس معه. ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء، فأمر الجيش، فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس، لعله يجد بعض الحَطَّابة أو أحداً يخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها. وكان الله قد عمي الأخبار عن قريش، فهم على وَجَلٍ وترقب، وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار. قال العباس: والله إني لأسير عليها ـ أي على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً. قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة، حَمَشَتْها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: أبا حَنْظَلَة؟ فعرف صوتي، فقال: أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: مالك؟ فداك أبي وأمي. قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله. قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه. قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته. حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلى، فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان، عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضتُ البغلة فسبقت، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلاً يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا، قال: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إلى من إسلام الخطاب، لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به)، فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟) قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئاً بعد. قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟)، قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك: أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيء. فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق. قال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً. قال: (نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن). الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة وفي هذا الصباح ـ صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ ـ غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خَطْمِ الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال: يا عباس، من هذه؟ فيقول ـ مثلا ـ سليم، فيقول: مإلى ولِسُلَيْم؟ ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فيقول: مُزَيْنَة، فيقول: ما لي ولمزينة؟ حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها، فإذا أخبره قال: مالي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يري منهم إلا الحَدَق من الحديد، قال: سبحان الله! يا عباس، من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة. ثم قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلْكُ ابن أخيك اليوم عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذن. وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليـوم أذل الله قـريشاً. فلما حـاذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول الله، ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: (وما قال؟) فقال: قال كذا وكذا. فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل اليوم يوم تُعَظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً) ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأي أن اللواء لم يخرج عن سعد. وقيل: بل دفعه إلى الزبير. قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان ومضي قال له العباس: النجاء إلى قومك. فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به. فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحَمِيت الدسم الأخمش الساقين، قُبِّحَ من طَلِيعَة قوم. قال أبو سفيان: ويلكم، لاتغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، ووبشوا أوباشاً لهم، وقالوا: نقدم هؤلاء، فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. فتجمع سفهاء قريش وأخِفَّاؤها مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو بالخَنْدَمَة ليقاتلوا المسلمين. وكان فيهم رجل من بني بكر ـ حِمَاس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سلاحاً، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أري؟ قال: لمحمد وأصحابه. قالت: والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال: إن يقبلوا اليوم فمالي عِلَّه ** هــذا ســلاح كامــل وألَّه وذو غِرَارَيْن سريع السَّلَّة ** فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة. الجيش الإسلامي بذي طُوَى أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضي حتى انتهي إلى ذي طوي ـ وكان يضع رأسه تواضعاً لله حين رأي ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل ـ وهناك وزع جيشه، وكان خالد بن الوليد على المُجَنَّبَةِ اليمني ـ وفيها أسْلَمُ وسُلَيْم وغِفَار ومُزَيْنَة وجُهَيْنَة وقبائل من قبائل العرب ـ فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال: (إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً، حتى توافوني على الصفا). وكان الزبير بن العوام على المُجَنَّبَةِ اليسري، وكان معه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها ـ من كَدَاء ـ وأن يغرز رايته بالحَجُون، ولا يبرح حتى يأتيه. وكان أبو عبيدة على الرجالة والحُسَّر ـ وهم الذيم لاسلاح معهم ـ فأمره أن يأخذ بطن الوادي حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجيش الإسلامي يدخل مكة وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها. فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه. وقتل من أصحابه من المسلمين كُرْز بن جابر الفِهْرِي وخُنَيْس بن خالد بن ربيعة. كانا قد شذا عن الجيش، فسلكا طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً، وأما سفهاء قريش فلقيهم خالد وأصحابه بالخَنْدَمَة فناوشوهم شيئا من قتال، فأصابوا من المشركين اثني عشر رجلاً، فانهزم المشركون، وانهزم حِمَاس بن قيس ـ الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين ـ حتى دخل بيته، فقال لامرأته: أغلقي على بابي. فقالت: وأين ما كنت تقول؟ فقال: وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا. وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحَجُون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم. الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: {جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:81]، {قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49] والأصنام تتساقط على وجوهها. وكان طوافه على راحلته، ولم يكن محرماً يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت فدخلها، فرأي فيها الصور، ورأي فيها صورة إبراهيم، وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ يستقسمان بالأزلام، فقال: (قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط). ورأي في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت. الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في الكعبة ثم يخطب أمام قريش ثم أغلق عليه الباب، وعلى أسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع وقف، وجعل عمودين عن يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه ـ وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ـ ثم صلي هناك. ثم دار في البيت، وكبر في نواحيه، ووحد الله، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع؟ فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته، فقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثُرَة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سِدَانَة البيت وسِقاية الحاج، ألاوقتيل الخطأ شبه العمد ـ السوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولاد. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}. لا تثريب عليكم اليوم ثم قال: (يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟) قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: (فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} اذهبوا فأنتم الطلقاء). مفتاح البيت إلى أهله ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقام إليه علي رضي الله عنه ومفتاح الكعبة في يده فقال: اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك ـ وفي رواية أن الذي قال ذلك هو العباس ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين عثمان بن طلحة؟). فدعي له، فقال له: (هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء)، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له حين دفع المفتاح إليه: (خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف). بلال يؤذن على الكعبة وحانت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته. فقال أبو سفيان: أما والله لا أقول شيئًا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء. فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (لقد علمت الذي قلتم) ثم ذكر ذلك لهم. فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك. صلاة الفتح أو صلاة الشكر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب، فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها ـ وكان ضحى ـ فظنها من ظنها صلاة الضحى، وإنما هذه صلاة الفتح، وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتها، وسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها ذلك. إهدار دم رجال من أكابر المجرمين وأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر المجرمين، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم عبد العزى بن خطل، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن نفيل بن وهب، ومقيس بن صبابة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن الأخطل، كانت تغنيان بهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وهي التي وجد معها كتاب حاطب. فأما ابن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشفع فيه، فحقن دمه، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر، ثم ارتد ورجع إلى مكة. وأما عكرمة بن أبي جهل، ففر إلى اليمن، فاستأمنت له امرأته، فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته، فرجع معها وأسلم وحسن إسلامه. وأما ابن خطل فكان متعلقًا بأستار الكعبة، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال: (اقتله) فقتله. وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبدالله، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين. وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله بمكة، فقتله علي. وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ففر هبار يوم مكة ثم أسلم وحسن إسلامه. وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى فأسلمت، كما استؤمن لسارة وأسلمت. قال ابن حجر: وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي، قتله على. وذكر الحاكم أيضاً ممن أهدر دمه كعب بن زهير، وقصته مشهورة، وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح، ووحشي بن حرب، وهند بنت عتبة امرأه أبي سفيان، وقد أسلمت، وأرنب مولاه ابن خطل أيضاً قتلت، وأم سعد قتلت، فيما ذكر ابن إسحاق، فكملت العدة ثامنية رجال وست نسوة، ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد القينتان، أختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب. إسلام صفوان بن أمية، وفضالة بن عمير لم يكن صفوان ممن أهدر دمه، لكنه بصفته زعيماً كبيراً من زعماء قريش خاف على نفسه وفر، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة، فلحقة عمير وهو يريد أن يركب البحر من جدة إلى اليمن فرده، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلني بالخيار شهرين. قال (أنت بالخيار أربعة أشهر) ثم أسلم صفوان، وقد كانت امرأته أسلمت قبله، فأقرهما على النكاح الأول. وكان فضالة رجلاً جريئا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الطواف؛ ليقتله، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما في نفسه فأسلم. خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم الثاني من الفتح: ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله، ثم قال: (أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسولة ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب). وفي رواية: (لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده ولا تلتقط ساقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه)، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال: (إلا الإذخر). وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجلا من بنى ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الصدد: (يا معشر خزاعة، ارفعو أيديكم عن القتل، فلقد كثر القتل إن نفع، ولقد قتلتم قتيالا لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله). وفي رواية: فقام رجل من أهل اليمن يقال له: شاه فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اكتبو لأبي شاه). تخوف الأنصار من بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ولما تم فتح مكة على الرسول صلى الله عليه وسلم - وهي بلده ووطنه ومولده - قال الأنصار فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها - وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه - فلما فرغ من دعائة قال: (ماذا قلتم؟) قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم). أخذ البيعة وحين فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، تبين لأهل مكة الحق، وعلموا أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام، فأذعنوا له، واجتمعوا للبيعة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا يبايع الناس، وعمر بن الخطاب أسفل منه، يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا. وفي المدارك: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر قاعد أسفل منه، يبايعهن بأمره، ويبلغهن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة، خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها؛ لما صنعت بحمزة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئا)، فبايع عمر النساء على ألا يشركن بالله شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا تسرقن) فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، فإن أنا أصبت من ماله هنات؟ فقال أبو سفيان: وما أصبت فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال: (وإنك لهند؟) قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك. فقال: (ولا يزنين). فقالت: أو تزني الحرة؟ فقال: (ولا يقتلن أولادهن). فقالت: ربيناهم صغارا، وقتلناهم كبارا، فأنتم وهم أعلم ـ وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدرـ فضحك عمر حتى استلقى فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (ولا يأتين ببهتان) فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. فقال: (ولا يعصينك في معروف) فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك. ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور. وفي الصحيح: جاءت هند بنت عتبة فقالت: يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يغزوا من أهل خبائك. قال: (وأيضا، والذي نفسي بيده) قالت: يا رسول ال،له إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ قال: (لا أره إلا بالمعروف). | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 4:25 am | |
| إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة وعمله فيها
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالم الإسلام، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الآيام أمر أبا أسيد الخزاعي، فجدد أنصاب الحرم، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثان التي كانت حول مكة، فكسرت كلها، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره.
السرايا والبعوث
1ـ ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بعث خالد بن الوليد إلى العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان ـ سنة 8 هـ ـ ليهدمها وكانت بنخلة، وكانت لقريش وجميع بني كنانة وهي أعظم أصنامهم. وكان سدنتها بني شيبان، فخرج إليها خالد في ثلاثين فارسًا حتى انتهى إليها، فهدمها. ولما رجع إليها سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل رأيت شيئا؟) قال : لا قال: (فإنك لم تهدمها فارجع إليها فاهدمها) فرجع خالد متغيظًا قد جرد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشرة الرأس فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها باثنتين، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: (نعم، تلك العزى، وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبدا).
2ـ ثم بعث عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى سواع ليهدمه وهو صنم لهذيل برهاط، على قرابة 150 كيلوا مترا شمال شرقي مكة، فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن: ما تريد؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه قال: لا تقدر على ذلك قال: لم ؟ قال تمنع قال: حتى الآن أنت على الباطل؟ ويحك فهل يسمع أو يبصر؟ ثم دنا فكسره، وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا فيه شيئا، ثم قال للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.
3ـ وفي الشهر نفسه بعث سعد بن زيد بن الأشهلي في عشرين فارسًا إلى مناة وكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فلما انتهى سعد إليها قال له سادنها: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل إليها سعد، وخرجت امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال لها السادن: مناة دونك بعض عصاتك. فضربها سعد فقتلها، وأقبل إلى الصنم فهدمه وكسره، ولم يجدوا في خزانته شيئًا.
4ـ ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال من نفس السنة ـ 8هـ ـ إلى بني جذيمة داعيا إلى الإسلام لا مقاتلا فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وبني سليم، فانتهى إليهم فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا. فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم ودفع إلى كل رجل ممن كان معه أسيرًا، فأمر يومًا أن يقتل كل رجل أسيره فأبى ابن عمر وأصحابه حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا له، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وقال : (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالدًا) مرتين.
وكانت بنو سليم هم الذين قتلوا أسراهم دون المهاجرين والأنصار وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان أحد ذهبا، ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته).
تلك هي غزوة فتح مكة، وهي المعركة الفاصلة والفتح الأعظم الذي قضى على كيان الوثنية قضاء باتًا، ولم يترك لبقائها مجالا ولا مبررا في ربوع الجزيرة العربية، فقد كانت عامة القبائل تنتظر ماذا يتمخض عنه العراك والاصطدام الذي كان دائرًا بين المسلمين والوثنيين وكانت تلك القبائل تعرف جيدا أن الحرم لا يسيطر عليه إلا من كان على الحق وكان قد تأكد لديهم هذا الاعتقاد الجازم أي تأكد قبل نصف القرن حين قصد أصحاب الفيل هذا البيت فأهلكوا وجعلوا كعصف مأكول.
وكان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به وكلم بعضهم بعضًا، وناظره في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه كثير في الإسلام، حتى إن عدد الجيش الإسلامي الذي لم يزد في الغزوات السالفة على ثلاث آلاف إذا هو يزخر في هذه الغزوة في عشرة آلاف.
وهذه الغزوة الفاصلة فتحت أعين الناس وأزالت عنها آخر الستور التي كانت تحول بينها وبين الإسلام وبهذا الفتح سيطر المسلمون على الموقف السياسي والديني كليهما معا في طول جزيرة العرب وعرضها، فقد انتقلت إليهم الصدارة الدينية والزعامة الدنيوية.
فالطور الذي كان قد بدأ بعد صلح الحديبية لصالح المسلمين قد تم وكمل بهذا الفتح المبين، وبدأ بعد ذلك طور آخر كان لصالح المسلمين تمامًا، وكان لهم فيه السيطرة على الموقف تمامًا. ولم يبق لأقوام العرب إلا أن يفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعتنقوا الإسلام ويحملوا دعوته إلى العالم، وقد تم استعدادهم لذلك في سنتين آتيتين. | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 4:26 am | |
| المرحلة الثالثة وهي آخر مرحلة من مراحل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. تمثل النتائج التي أثمرتها دعوته الإسلامية بعد جهاد طويل وعناء ومتاعب وقلاقل وفتن واضطرابات ومعارك وحروب دامية واجهتها طيلة بضعة وعشرين عامًا. وكان فتح مكة هو أعظم فتح حصل عليه المسلمون في هذه الأعوام، تغير لأجله مجرى الأيام، وتحول به جو العرب، فقد كان الفتح حدًا فاصلا بين السابقة عليه وبين ما بعده، فإن قريشًا كانت في نظر العرب حماة الدين وأنصاره، والعرب في ذلك تبع لهم، فخضوع قريش يعتبر القضاء الأخير على الدين الوثني في جزيرة العرب. ويمكن أن نقسم هذه المرحلة إلى صفحتين: 1ـ صفحة المجاهدة والقتال. 2ـ صفحة تسابق الشعوب والقبائل إلى اعتناق الإسلام. وهاتان الصفحتان متلاصقتان تناوبتا في هذه المرحلة، ووقعت كل واحدة منهما خلال الأخرى إلا أنا اخترنا في الترتيب الوضعي أن نأتي على ذكر كل من الصفحتين متميزة عن الأخرى، ونظرًا إلى صفحة القتال ألصق بما مضى، وأكثر مناسبة من الأخرى قدمناها في الترتيب. ولما أجمع القائد العام ـ مالك بن عوف ـ المسير إلى حرب المسلمين، ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فسار حتى نزل بأوْطَاس ـ وهو واد في دار هَوَازِن بالقرب من حُنَيْن، لكن وادي أوطاس غير وادي حنين، وحنين واد إلى جنب ذي المجَاز، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات. مُجَرِّب الحروب يُغَلِّط رأي القائد ولما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دُرَيْدُ بن الصِّمَّةِ ـ وهو شيخ كبير، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعاً مجرباً ـ قال دريد: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مَجَالُ الخيل، لا حَزْنٌ ضَرسٌ ، ولا سَهْلٌ دَهِس، مإلى أسمع رُغَاء البعير، ونُهَاق الحمير، وبُكَاء الصبي، وثُغَاء الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم، فدعا مالكاً وسأله عما حمله على ذلك، فقال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال: راعي ضأن واللّه، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك، ثم سأل عن بعض البطون والرؤساء، ثم قال: يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بَيْضَة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم، ثم الْقَ الصُّبَاة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزتَ أهلك ومالك. ولكن مالكاً ـ القائد العام ـ رفض هذا الطلب قائلاً: واللّه لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، واللّه لتطيعني هوازن أو لأتَّكِئَنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فقالوا: أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْنِي: يا ليتنـي فيها جـَذَعْ ** أخُبُّ فيها وأضَعْ أقود وطْفَاءَ الزَّمَــعْ ** كأنها شـاة صَدَعْ سلاح استكشاف العدو وجاءت إلى مالك عيون كان قد بعثهم للاستكشاف عن المسلمين، جاءت هذه العيون وقد تفرقت أوصالهم، قال: ويلكم، ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالاً بيضا على خيل بُلْق، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما تري. سلاح استكشاف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونقلت الأخبار إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمسير العدو، فبعث أبا حَدْرَد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، ففعل. الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر مكة إلى حنين وفي يوم السبت ـ السادس من شهر شوال سنة 8 هـ ـ غادر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مكةـ وكان ذلك اليوم التاسع عشر من يوم دخوله في مكة ـ خرج في اثني عشر ألفاً من المسلمين ؛ عشرة آلاف ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة، وألفان من أهل مكة. وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام واستعار من صفوان بن أمية مائة درع بأداتها، واستعمل على مكة عَتَّاب بن أسيد. ولما كان عشية جاء فارس، فقال: إني طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة آبائهم بِظُعُنِهم ونَعَمِهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال: (تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء اللّه)، وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أبي مَرْثَد الغَنَوي. وفي طريقهم إلى حنين رأوا سِدْرَة عظيمة خضراء يقال لها: ذات أنْوَاط، كانت العرب تعلق عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها ويعكفون، فقال بعض أهل الجيش لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال: (اللّه أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسي: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، إنها السَّنَنُ، لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم). وقد كان بعضهم قال نظراً إلى كثرة الجيش: لن نُغْلَبَ اليوم، وكان قد شق ذلك على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: الجيش الإسلامي يُباغَتْ بالرماة والمهاجمين انتهي الجيش الإسلامي إلى حنين، الليلة التي بين الثلاثاء والأربعاء لعشر خلون من شوال، وكان مالك بن عوف قد سبقهم، فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي، وفرق كُمَنَاءه في الطرق والمداخل والشعاب والأخباء والمضايق، وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا المسلمين أول ما طلعوا، ثم يشدوا شدة رجل واحد. وبالسَّحَر عبأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جيشه، وعقد الألوية والرايات، وفرقها على الناس، وفي عَمَاية الصبح استقبل المسلمون وادي حنين، وشرعوا ينحدرون فيه، وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذا الوادي، فبينا هم ينحطون إذا تمطر عليهم النبال، وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم شدة رجل واحد، فانشمر المسلمون راجعين، لا يلوي أحد على أحد، وكانت هزيمة منكرة، حتى قال أبو سفيان بن حرب، وهو حديث عهد بالإسلام: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ـ الأحمر ـ وصرخ جَبَلَةُ أو كَلَدَةُ بن الحَنْبَل: ألا بطل السِّحْر اليوم. وانحاز رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جهة اليمين وهو يقول: (هَلُمُّوا إلى أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد اللّه) ولم يبق معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين والأنصار. تسعة على قول ابن إسحاق، واثنا عشر على قول النووي، والصحيح ما رواه أحمد والحاكم في المستدرك من حديث ابن مسعود، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فولي عنه الناس وثبت معه ثمانون رجلاًمن المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا ولم نُوَلِّهم الدُّبُر، وروي الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال: لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولين، وما مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلممائة رجل. وحينئذ ظهرت شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا نظير لها، فقد طفق يركض بغلته قبل الكفار وهو يقول: (أنــا النبي لا كَذِبْ ** أنا ابن عبد المطلب) بيد أن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بلجام بغلته، والعباس بركابه، يكفانها ألا تسرع، ثم نزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستنصر ربه قائلاً: (اللّهم أنزل نصرك). رجوع المسلمين واحتدام المعركة وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمه العباس ـ وكان جَهِيَر الصوت ـ أن ينادي الصحابة، قال العباس: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السَّمُرَة؟ قال: فوالله لكأن عَطْفَتَهُم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك. ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر عليه، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس واقتتلوا. وصرفت الدعوة إلى الأنصار: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخري كما كانوا تركوا الموقعة، وتجالد الفريقان مجالدة شديدة، ونظر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى ساحة القتال، وقد استحر واحتدم، فقال: (الآن حَمِي الوَطِيسُ). ثم أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب الأرض، فرمي بها في وجوه القوم وقال: (شاهت الوجوه)، فما خلق اللّه إنساناً إلا ملأعينيه تراباً من تلك القبضة، فلم يزل حَدُّهُم كَلِيلاً وأمرهم مُدْبِرًا. انكسار حدة العدو وهزيمته الساحقة وما هي إلا ساعات قلائل ـ بعد رمي القبضة ـ حتى انهزم العدو هزيمة منكرة، وقتل من ثَقِيف وحدهم نحو السبعين، وحاز المسلمون ما كان مع العدو من مال وسلاح وظُعُن. وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} [التوبة:25، 26] حركة المطاردة ولما انهزم العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى نَخْلَة، وطائفة إلى أوْطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أوطاس طائفة من المطاردين يقودهم أبو عامرالأشعري، فَتَنَاوَشَ الفريقان القتال قليلاً ، ثم انهزم جيش المشركين، وفي هذه المناوشة قتل القائد أبو عامر الأشعري. وطاردت طائفة أخري من فرسان المسلمين فلول المشركين الذين سلكوا نخلة، فأدركت دُرَيْدَ بن الصِّمَّة فقتله ربيعة بن رُفَيْع. وأما معظم فلول المشركين الذين لجأوا إلى الطائف، فتوجه إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن جمع الغنائم. الغنائم وكانت الغنائم: السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرون ألفاً ، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بجمعها، ثم حبسها بالجِعْرَانَة، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري، ولم يقسمها حتى فرغ من غزوة الطائف. وكانت في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية ؛ أخت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فلما جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت له نفسها، فعرفها بعلامة فأكرمها، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، ثم منّ عليها، وردّها إلى قومها. غزوة الطائف وهذه الغزوة في الحقيقة امتداد لغزوة حنين، وذلك أن معظم فلول هَوَازن وثَقِيف دخلوا الطائف مع القائد العام ـ مالك بن عوف النَّصْرِي ـ وتحصنوا بها، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من حنين وجمع الغنائم بالجعرانة، في الشهر نفسه ـ شوال سنة 8 هـ. وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل، ثم سلك رسول اللهصلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فمر في طريقه على نخلة اليمانية، ثم على قَرْنِ المنازل، ثم على لِيَّةَ، وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه، ثم واصل سيره حتى انتهي إلى الطائف فنزل قريباً من حصنه، وعسكر هناك، وفرض الحصار على أهل الحصن. ودام الحصار مدة غير قليلة، ففي رواية أنس عند مسلم: أن مدة حصارهم كانت أربعين يوماً، وعند أهل السير خلاف في ذلك، فقيل: عشرين يوماً، وقيل: بضعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: خمسة عشر. ووقعت في هذه المدة مراماة، ومقاذفات، فالمسلمون أول ما فرضوا الحصار رماهم أهل الحصن رمياً شديداً، كأنه رِجْل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلاً، واضطروا إلى الارتفاع عن معسكرهم إلى مسجد الطائف اليوم، فعسكروا هناك. ونصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف، وقذف به القذائف، حتى وقعت شدخة في جدار الحصن، فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة. ودخلوا بها إلى الجدار ليحرقوه، فأرسل عليهم العدو سكك الحديد محماة بالنار. فخرجوا من تحتها، فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالاً. وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ كجزء من سياسة الحرب لإلجاء العدو إلى الاستسلام ـ أمر بقطع الأعناب وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعاً ذريعاً، فسألته ثقيف أن يدعها للّه والرحم، فتركها للّه والرحم. ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج إليهم ثلاثة وعشرون رجلاً ، فيهم أبو بكرة ـ تسور حصن الطائف، وتدلي منه ببكرة مستديرة يستقى عليها، فكناه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم [أبا بكرة] ـ فأعتقهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديدة. ولما طال الحصار واستعصي الحصن، وأصيب المسلمون بما أصيب من رشق النبال وبسكك الحديد المحماة ـ وكان أهل الحصن قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة ـ استشار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي فقال: هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، وحينئذ عزم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على رفع الحصار والرحيل، فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس، إنا قافلون غداً إن شاء اللّه، فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (اغدوا على القتال)، فغدوا فأصابهم جراح، فقال: (إنا قافلون غداً إن شاء اللّه) فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يضحك. ولما ارتحلوا واستقلوا قال: قولوا: (آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون). وقيل: يا رسول اللّه، ادع على ثقيف، فقال: (اللّهم اهد ثقيفا، وائت بهم). قسمة الغنائم بالجِعْرَانَة ولما عاد رسول اللْه صلى الله عليه وسلم بعد رفع الحصار عن الطائف مكث بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، ويتأني بها، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين فيحرزوا ما فقدوا، ولكنه لم يجئه أحد، فبدأ بقسمة المال، ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطي وحظي بالأنصبة الجزلة. أعطي أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل، فقال: ابني يزيد؟ فأعطاه مثلها، فقال: ابني معاوية؟ فأعطاه مثلها، وأعطي حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخري، فأعطاه إياها. وأعطي صفوان بن أمية مائة من الإبل، ثم مائة ثم مائة ـ كذا في الشفاء ـ وأعطي الحارث بن الحارث بن كَلَدَة مائة من الإبل، وكذلك أعطي رجالا من رؤساء قريش وغيرها مائة مائة من الإبل وأعطي آخرين خمسين خمسين وأربعين أربعين، حتى شاع في الناس أن محمداً يعطي عطاءً، ما يخاف الفقر، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال: (أيها الناس، ردوا علي ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً). ثم قام إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبرة، فجعلها بين إصبعه، ثم رفعها، فقال: (أيها الناس، واللّه مالى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم). وبعد إعطاء المؤلفة قلوبهم أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس، ثم فرضها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل إما أربعاً من الإبل، وإما أربعين شاة، فإن كان فارساً أخذ اثني عشر بعيراً أو عشرين ومائة شاة. الأنصار تَجِدُ على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانت هذه القسمة مبنية على سياسة حكيمة، لكنها لم تُفْهَم أول الأمر، فأُطْلِقتْ ألسنة شتي بالاعتراض. روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وَجَدَ هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القَالَةُ، حتى قال قائلهم: لقي واللّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول اللّه، إن هذا الحي من الأنصار قد وَجَدُوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.قال: (فأين أنت من ذلك يا سعد؟) قال: يا رسول اللّه، ما أنا إلا من قومي. قال: (فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة). فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا. وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال: لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحمد اللّه، وأثني عليه، ثم قال: (يا معشر الأنصار، ما قَالَهٌ بلغتني عنكم، وَجِدَةٌ وجدتموها على في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم اللّه؟ وعالة فأغناكم اللّه؟ وأعداء فألف اللّه بين قلوبكم؟) قالـوا: بلـي، اللّه ورسولـه أمَنُّ وأفْضَلُ. ثم قال: (ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟) قالوا: بماذا نجيبك يا رسول اللّه؟ للّه ورسوله المن والفضل. قال: (أما واللّه لو شئتم لقلتم، فصَدَقْتُمْ ولصُدِّقْتُمْ: أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسَيْنَاك). (أوَجَدْتُمْ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لَعَاعَةٍ من الدنيا تَألفَّتُ بها قوماً ليُسْلِمُوا، ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللّهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار). فبكي القوم حتى أخْضَلُوا لِحَاهُم وقالوا: رضينا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم قَسْمًا وحظاً، ثم انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا. قدوم وفد هوازن وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلماً، وهم أربعة عشر رجلاً ورأسهم زهير ابن صُرَد، وفيهم أبو بُرْقَان عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فأسلموا وبايعوا ثم قالوا: يا رسول اللّه، إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات، والعمات والخالات، وهن مخازي الأقوام: فامنن علينا رسول اللّه في كـرم ** فإنـك المرء نرجـوه وننتظر امنن على نسوة قد كنت ترضعها ** إذ فوك تملؤه من محضها الدرر وذلك في أبيات. فقال: (إن معي من ترون، وإن أحب الحديث إلى أصدقه، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟) قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً. فقال: (إذا صليت الغداة ـ أي صلاة الظهر ـ فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يرد إلينا سبينا)، فلما صلي الغداة قاموا فقالوا ذلك. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس)، فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم. فقال الأقْرَع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عُيَيْنَة بن حِصْن: أما أنا وبنو فَزَارَة فلا.وقال العباس بن مِرْدَاس: أما أنا وبنو سُلَيْم فلا. فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم. فقال العباس بن مرداس: وهنتموني. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (إن هؤلاء القوم قد جاءوا مسلمين، وقد كنت استأنيت سَبْيَهُمْ، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئاً، فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك، ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء اللّه علينا)، فقال الناس: قد طيبنا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم. فقال: (إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض، فارجعوا حتى يرفع إلينا عُرَفَاؤكم أمركم)، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، لم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن، فإنه أبي أن يرد عجوزاً صارت في يديه منهم، ثم ردها بعد ذلك، وكسا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم السبي قبطية قبطية. العمرة والانصراف إلى المدينة ولما فرغ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من قسمة الغنائم في الجِعْرَانة أهلَّ معتمراً منها، فأدي العمرة، وانصرف بعد ذلك راجعاً إلى المدينة بعد أن ولي على مكة عَتَّاب بن أسيد، وكان رجوعه إلى المدينة ودخوله فيها لست ليال بقيت من ذي القعدة سنة 8 هـ. | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 4:30 am | |
| البعوث والسرايا بعد الرجوع من غزوة الفتح وبعد الرجوع من هذا السفر الطويل الناجح أقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة يستقبل الوفود، ويبعث العمال، ويبث الدعاة، ويَكْبِتُ من بقي فيه الاستكبار عن الدخول في دين اللّه، والاستسلام للأمر الواقع الذي شاهدته العرب. وهاك صورة مصغرة من ذلك. المصدقون قد عرفنا مما تقدم أن رجوع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان في أواخر أيام السنة الثامنة، فما هو إلا أن استهل هلال المحرم من سنة 9 هـ، وبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المُصَدِّقين إلى القبائل، وهذه هي قائمتهم: 1 ـ عُيَيْنَةُ بن حصن إلى بني تميم. 2 ـ يزيد بن الحُصَيْن إلى أسْلَم وغِفَار. 3 ـ عَبَّاد بن بشير الأشهلي إلى سُلَيْم ومُزَيْنَةَ. 4 ـ رافع بن مَكِيث إلى جُهَيْنَة. 5 ـ عمرو بن العاص إلى بني فَزَارَة. 6 ـ الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب. 7 ـ بشير بن سفيان إلى بني كعب. 8 ـ ابن اللُّتِْبيَّة الأزدي إلى بني ذُبْيَان. 9 ـ المهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء ـ وخرج عليه الأسود العنسي وهو بها. 10 ـ زياد بن لبيد إلى حضرموت. 11 ـ عدي بن حاتم إلى طيئ وبني أسد. 12 ـ مالك بن نُوَيْرَة إلى بني حَنْظَلَة. 13ـ الزِّبْرِقَان بن بدر إلى بني سعد ـ إلى قسم منهم. 14 ـ قيس بن عاصم إلى بني سعد ـ إلى قسم آخر منهم. 15 ـ العلاء بن الحضرمي إلى البحرين. 16 ـ علي بن أبي طالب إلى نجران ـ لجمع الصدقة والجزية كليهما. وليس هؤلاء العمال كلهم بعثوا في المحرم سنة 9 هـ، بل تأخر بعث عدة منهم إلى اعتناق الإسلام من تلك القبائل التي بعثوا إليها. نعم كانت بداية بعث العمال بهذا الاهتمام البالغ في المحرم سنة 9 هـ، وهذا يدل على مدي نجاح الدعوة الإسلامية بعد صلح الحديبية، وأما بعد فتح مكة فقد دخل الناس في دين اللّه أفواجاً. السرايا وكما بعث المصدقون إلى القبائل، مَسَّتِ الحاجة إلى بعث عدة من السرايا مع سيادة الأمن على عامة مناطق الجزيرة، وهاك لوحة تلك السرايا: 1ـ سرية عيينة بن حصن الفزاري ـ في المحرم سنة 9 هـ ـ إلى بني تميم، في خمسين فارساً، لم يكن فيهم مهاجري ولا أنصاري، وسببها: أن بني تميم كانوا قد أغروا القبائل، ومنعوهم عن أداء الجزية. وخرج عيينة بن حصن يسير الليل، ويكمن النهار، حتى هجم عليهم في الصحراء فولي القوم مدبرين، وأخذ منهم أحد عشر رجلاً وإحدي وعشرين امرأة وثلاثين صبياً، وساقهم إلى المدينة، فأنزلوا في دار رَمْلَة بنت الحارث. وقدم فيهم عشرة من رؤسائهم، فجاءوا إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا: يا محمد، اخرج إلينا، فخرج، فتعلقوا به، وجعلوا يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضي حتى صلي الظهر، ثم جلس في صحن المسجد، فأظهروا رغبتهم في المفاخرة والمباهاة، وقدموا خطيبهم عُطَارِد بن حاجب فتكلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شَمَّاس ـ خطيب الإسلام ـ فأجابهم، ثم قدموا شاعرهم الزبرقان بن بدر، فأنشد مفاخراً، فأجابه شاعر الإسلام حسان بن ثابت على البديهة. ولما فرغ الخطيبان والشاعران قال الأقرع بن حابس: خطيبه أخطب من خطيبنا، وشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا، وأقوالهم أعلى من أقوالنا، ثم أسلموا، فأجازهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأحسن جوائزهم، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم. 2ـ سرية قُطْبَة بن عامر إلى حي من خَثْعَم بناحية تَبَالَة، بالقرب من تُرَبَة في صفر سنة 9 هـ. خرج قطبة في عشرين رجلاً على عشرة أبعرة يعتقبونها، فشن الغارة، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعاً، وقتل قطبة مع من قتل، وساق المسلمون النَّعَم والنساء والشاء إلى المدينة. 3ـ سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كِلاَب في ربيع الأول سنة9هـ. بعثت هذه السرية إلى بني كلاب ؛ لدعوتهم إلى الإسلام، فأبوا وقاتلوا، فهزمهم المسلمون، وقتلوا منهم رجلاً. 4ـ سرية علقمة بن مُجَزِّرِ المُدْلِجي إلى سواحل جُدَّة في شهر ربيع الآخر سنة 9هـ في ثلاثمائة.بعثهم إلى رجال من الحبشة، كانوا قد اجتمعوا بالقرب من سواحل جدة للقيام بأعمال القَرْصَنَة ضد أهل مكة، فخاض علقمة البحر حتى انتهي إلى جزيرة، فلما سمعوا بمسير المسلمين إليهم هربوا. 5ـ سرية على بن أبي طالب إلى صنم لطيئ يقال له: الفُلْس ـ ليهدمه ـ في شهر ربيع الأول سنة 9 هـ. بعثه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة، على مائة بعير وخمسين فرساً، ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر، فهدموه وملأوا أيديهم من السبي والنعم والشاء، وفي السبي أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام، ووجد المسلمون في خزانة الفلس ثلاثة أسياف وثلاثة أدرع، وفي الطريق قسموا الغنائم، وعزلوا الصفي لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم. ولم يقسموا آل حاتم. ولما جـاءوا إلى المدينة استعطفت أخـت عـدي بـن حاتم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قائلـة: يا رسول اللّه، غاب الوافد، وانقطع الوالد، وأنا عجوز كبيرة، ما بي من خدمة، فمُنَّ على، منّ اللّه عليك. قال: (من وافدك؟) قالت: عدي بن حاتم،. قال: (الذي فر من اللّه ورسوله؟) ثم مضي، فلما كان الغد قالت مثل ذلك، وقال لها مثل ما قال أمس. فلما كان بعد الغد قالت مثل ذلك، فمن عليها، وكان إلى جنبه رجل ـ تري أنه على ـ فقال لها: سليه الحِمْلان فسألته فأمر لها به. ورجعت أخت عدي بن حاتم إلى أخيها عدي بالشام، فلما لقيته قالت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، ائته راغباً أو راهباً، فجاءه عدي بغيرأمان ولا كتاب. فأتي به إلى داره، فلما جلس بين يديه حمد اللّه وأثني عليه، ثم قال: ما يُفِرُّكَ؟ أيُفِرُّك أن تقول: (لا إله إلا اللّه؟ فهل تعلم من إله سوى اللّه؟) قال: لا. ثم تكلم ساعة ثم قال: (إنما تفر أن يقال: اللّه أكبر، فهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟) قال: لا. قال: (فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصاري ضالون). قال: فإني حَنِيف مسلم، فانبسط وجهه فرحاً، وأمر به فنزل عند رجل من الأنصار، وجعل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم طرفي النهار. وفي رواية ابن إسحاق عن عدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجلسه بين يديه في داره قال له: (إيه يا عدي بن حاتم، ألم تكن رَكُوسِيّا؟) قال: قلت: بلي، قال: (أو لم تكن تسير في قومك بالمِرْبَاع؟).قال: قلت: بلي. قال: (فإن ذلك لم يحل لك في دينك). قال: قلت أجل واللّه. قال: وعرفت أنه نبي مرسل، يعرف ما يُجْهَل. وفي رواية لأحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا عدي، أسلم تسلم). فقلت: إني من أهل دين. قال: (أنا أعلم بدينك منك). فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: (نعم، ألست من الركوسية، وأنت تأكل مرباع قومك؟) فقلت: بلي، قال: (فإن هذا لا يحل لك في دينك). قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها. وروي البخاري عن عدي قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: (يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحداً إلا اللّه، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسري، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، ويطلب من يقبله فلا يجد أحداً يقبله منه...) الحديث وفي آخره: قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا اللّه. وكنت فيمن افتتح كنوز كسري بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (يخرج ملء كفه). | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 4:34 am | |
| غـــزوة تبـــوك في رجب سنة 9هـ إن غزوة فتح مكة كانت غزوة فاصلة بين الحق والباطل، لم يبق بعدها مجال للريبة والظن في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عند العرب، ولذلك انقلب المجري تماماً، ودخل الناس في دين اللّه أفواجاً ـ كما سيظهر ذلك مما نقدمه في فصل الوفود، ومن العدد الذي حضر في حجة الوداع ـ وانتهت المتاعب الداخلية، واستراح المسلمون لتعليم شرائع اللهّّ، وبث دعوة الإسلام. سبب الغزوة إلا أنه كانت هناك قوة تعرضت للمسلمين من غير مبرر، وهي قوة الرومان ـ أكبر قوة عسكرية ظهرت على وجه الأرض في ذلك الزمان ـ وقد عرفنا فيما تقدم أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفير رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ الحارث بن عمير الأزدي ـ على يدي شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني، حينما كان السفير يحمل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عظيم بُصْرَي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداماً عنيفاً في مؤتة، ولم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين، إلا أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب، قريبهم وبعيدهم. ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالح المسلمين، وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلالهم عن قيصر، ومواطأتهم للمسلمين، إن هذا كان خطراً يتقدم ويخطو إلى حدوده خطوة بعد خطوة، ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب، فكان يري أن القضاء يجب على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليها، وقبل أن تثير القلاقل والثورات في المناطق العربية المجاورة للرومان. ونظراً إلى هذه المصالح، لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة حتى أخذ يهيئ الجيش مـن الرومـان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم، وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة. الأخبار العامة عن استعداد الرومان وغَسَّان وكانت الأنباء تترامي إلى المدينة بإعداد الرومان ؛ للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين، حتى كان الخوف يتسورهم كل حين، لا يسمعون صوتاً غير معتاد إلا ويظنونه زحف الرومان.ويظهر ذلك جلياً مما وقع لعمر بن الخطاب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إلى من نسائه شهراً في هذه السنة ـ 9هـ ـ وكان هجرهن واعتزل عنهن في مشربة له ، ولم يفطن الصحابة إلى حقيقة الأمر في بدايته، فظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقهن، فسري فيهم الهم والحزن والقلق. يقول عمر بن الخطاب ـ وهو يروي هذه القصة: وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت آتية أنا بالخبر ـ وكانا يسكنان في عوالى المدينة، يتناوبان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ ونحن نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، فقال: افتح، افتح، فقلت: جاء الغساني؟ فقال: بل أشد من ذلك، اعتزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أزواجه... الحديث. وفي لفظ آخر ـ أنه قال ـ: وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نَوْبَتِهِ، فرجع عشاء، فضرب بابي ضرباً شديداً وقال: أنائم هو؟ ففزعت، فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم. فقلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا بل أعظم منه وأطول، طلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نساءه... الحديث. وهذا يدل على خطورة الموقف، الذي كان يواجهه المسلمون بالنسبة إلى الرومان، ويزيد ذلك تأكداً ما فعله المنافقون حينما نقلت إلى المدينة أخبار إعداد الرومان، فبرغم ما رآه هؤلاء المنافقون من نجاح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في كل الميادين، وأنه لا يوجل من سلطان على ظهر الأرض، بل يذيب كل ما يعترض في طريقه من عوائق ـ برغم هذا كله ـ طفق هؤلاء المنافقون يأملون في تحقق ما كانوا يخفونه في صدورهم، وما كانوا يتربصونه من الشر بالإسلام وأهله. ونظراً إلى قرب تحقق آمالهم أنشأوا وكرة للدس والتآمر، في صورة مسجد، وهو مسجد الضِّرَار، أسسوه كفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله، وعرضوا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه، وإنما مرامهم بذلك أن يخدعوا المؤمنين فلا يفطنوا ما يؤتي به في هذا المسجد من الدس والمؤامرة ضدهم، ولا يلتفتوا إلى من يرده ويصدر عنه، فيصير وكرة مأمونة لهؤلاء المنافقين ولرفقائهم في الخارج، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة فيه ـ إلى قفوله من الغزوة ـ لشغله بالجهاز، ففشلوا في مرامهم وفضحهم اللّه، حتى قام الرسول صلى الله عليه وسلم بهدم المسجد بعد القفول من الغزو، بدل أن يصلي فيه. الأخبار الخاصة عن استعداد الرومان وغسان كانت هذه هي الأحوال والأخبار التي يواجهها ويتلقاها المسلمون، إذ بلغهم من الأنباط الذين قدموا بالزيت من الشام إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشاً عرمرما قوامه أربعون ألف مقاتل، وأعطي قيادته لعظيم من عظماء الروم، وأنه أجلب معهم قبائل لَخْمٍ وجُذَامٍ وغيرهما من متنصرة العرب، وأن مقدمتهم بلغت إلى البلقاء، وبذلك تمثل أمام المسلمين خطر كبير. زيادة خطورة الموقف والذي كان يزيد خطورة الموقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد، وكان الناس في عسرة وجدب من البلاء وقلة من الظهر، وكانت الثمار قد طابت، فكانوا يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم فيه، ومع هذا كله كانت المسافة بعيدة، والطريق وعرة صعبة. الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر القيام بإقدام حاسم ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينظر إلى الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله، إنه كان يري أنه لو تواني وتكاسل عن غزو الرومان في هذه الظروف الحاسمة، وترك الرومان لتجوس خلال المناطق التي كانت تحت سيطرة الإسلام ونفوذه، وتزحف إلى المدينة كان له أسوأ أثر على الدعوة الإسلامية وعلى سمعة المسلمين العسكرية، فالجاهلية التي تلفظ نفسها الأخير بعد ما لقيت من الضربة القاصمة في حنين ستحيا مرة أخري، والمنافقون الذين يتربصون الدوائر بالمسلمين، ويتصلون بملك الرومان بواسطة أبي عامر الفاسق سيبعجون بطون المسلمين بخناجرهم من الخلف، في حين تهجم الرومان بحملة ضارية ضد المسلمين من الأمام، وهكذا يخفق كثير من الجهود التي بذلها هو أصحابه في نشر الإسلام، وتذهب المكاسب التي حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة متواصلة... تذهب هذه المكاسب بغير جدوي. كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعرف كل ذلك جيداً، ولذلك قرر القيام ـ مع ما كان فيه من العسرة والشدة ـ بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدودهم، ولا يمهلونهم حتى يزحفوا إلى دار الإسلام. الإعلان بالتهيؤ لقتال الرومان ولما قرر الرسول صلى الله عليه وسلم الموقف أعلن في الصحابة أن يتجهزوا للقتال، وبعث إلى القبائل من العرب وإلى أهل مكة يستنفرهم. وكان قل ما يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّي بغيرها، ولكنه نظراً إلى خطورة الموقف وإلى شدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان، وجلي للناس أمرهم ؛ ليتأهبوا أهبة كاملة، وحضهم على الجهاد، ونزلت قطعة من سورة براءة تثيرهم على الجلاد، وتحثهم على القتال، ورغبهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في بذل الصدقات، وإنفاق كرائم الأموال في سبيل اللّه. المسلمون يتسابقون إلى التجهز للغزو ولم يكن من المسلمين أن سمعوا صوت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى قتال الروم إلا وتسابقوا إلى امتثاله، فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة، وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية، ولم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة ـ إلا الذين في قلوبهم مرض وإلا ثلاثة نفر ـ حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؛ ليخرجوا إلى قتال الروم، فإذا قال لهم: {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]. كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات، كان عثمان بن عفان قد جهز عيراً للشام، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، فتصدق بها، ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره صلى الله عليه وسلم، فكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: (ما ضَرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم) ، ثم تصدق وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود. وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كلّه ولم يترك لأهله إلا اللّه ورسوله ـ وكانت أربعة آلاف درهم ـ وهو أول من جاء بصدقته. وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة، كلهم جاءوا بمال. وجاء عاصم بن عدي بتسعين وَسْقًا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مُدّا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها. وبعثت النساء ما قدرن عليه من مَسَك ومعاضد وخلاخل وقُرْط وخواتم. ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ}[التوبة: 79]. الجيش الإسلامي إلى تبوك وهكذا تجهز الجيش، فاستعمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وقيل: سِبَاع بن عُرْفُطَةَ، وخلف على أهله على بن أبي طالب، وأمره بالإقامة فيهم، وغَمَصَ عليه المنافقون، فخرج فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فرده إلى المدينة وقال: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي، إلا أنه لا نبي بعدي). وتحرك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم الخميس نحو الشمال يريد تبوك، ولكن الجيش كان كبيراً ـ ثلاثون ألف مقاتل، لم يخرج المسلمون في مثل هذا الجمع الكبير قبله قط ـ فلم يستطع المسلمون مع ما بذلوه من الأموال أن يجهزوه تجهيزاً كاملاً، بل كانت في الجيش قلة شديدة بالنسبة إلى الزاد والمراكب، فكان ثمانية عشر رجلاً يعتقبون بعيراً واحداً، وربما أكلوا أوراق الأشجار حتى تورمت شفاههم، واضطروا إلى ذبح البعير ـ مع قلتها ـ ليشربوا ما في كرشه من الماء، ولذلك سمي هذا الجيش جيش العُسْرَةِ. ومر الجيش الإسلامي في طريقه إلى تبوك بالحِجْر ـ ديار ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، أي وادي القُرَى ـ فاستقي الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا من مائها ولا تتوضأوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً)، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح رسول الله. وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين)، ثم قَنعَ رأسه وأسرع بالسير حتى جاز الوادي. واشتدت في الطريق حاجة الجيش إلى الماء حتى شكوا إلى رسول اللّه، فدعا اللّه، فأرسل اللّه سحابة فأمطرت حتى ارتوي الناس، واحتملوا حاجاتهم من الماء. ولما قرب من تبوك قال: (إنكم ستأتون غداً إن شاء اللّه تعالى عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يَضْحَي النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتي)، قال معاذ: فجئنا وقد سبق إليها رجلان، والعين تَبِضُّ بشيء من مائها، فسألهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (هل مسستما من مائها شيئاً؟) قالا: نعم. وقال لهما ما شاء اللّه أن يقول. ثم غرف من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع الْوَشَلُ ، ثم غسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويده، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقي الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك يا معاذ، إن طالت بك حياة أن تري ماهاهنا قد ملئ جناناً). وفي الطريق أو لما بلغ تبوك ـ على اختلاف الروايات ـ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (تهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عِقَالَه)، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ. وكان دأب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الطريق أنه كان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء جمع التقديم وجمع التأخيركليهما. الجيش الإسلامي بتبوك نزل الجيش الإسلامي بتبوك، فعسكر هناك، وهو مستعد للقاء العدو، وقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيهم خطيباً، فخطب خطبة بليغة، أتي بجوامع الكلم، وحض على خير الدنيا والآخرة، وحذر وأنذر، وبشر وأبشر، حتى رفع معنوياتهم، وجبر بها ما كان فيهم من النقص والخلل من حيث قلة الزاد والمادة والمؤنة. وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخذهم الرعب، فلم يجترئوا على التقدم واللقاء، بل تفرقوا في البلاد في داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية، في داخل الجزيرة وأرجائها النائية، وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة خطيرة، لعلهم لم يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بين الجيشين. جاء يُحَنَّةُ بن رُؤْبَةَ صاحب أيْلَةَ، فصالح الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جَرْبَاء وأهل أذْرُح، فأعطوه الجزية، وكتب لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتاباً فهو عندهم، وصالحه أهل مِينَاء على ربع ثمارها، وكتب لصاحب أيلة: (بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذه أمنة من اللّه ومحمد النبي رسول اللّه ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة اللّه وذمة محمد النبي، ومن كان معه من أهل الشام وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر). وبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أُكَيْدِرِ دُومَة الجَنْدَل في أربعمائة وعشرين فارساً، وقال له: (إنك ستجده يصيد البقر)، فأتاه خالد، فلما كان من حصنه بمنظر العين، خرجت بقرة، تحك بقرونها باب القصر، فخرج أكيدر لصيدها ـ وكانت ليلة مقمرة ـ فتلقاه خالد في خيله، فأخذه وجاء به إلى رسول اللّهصلى الله عليه وسلم، فحقن دمه، وصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة رأس وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، وأقر بإعطاء الجزية، فقاضاه مع يُحَنَّة على قضية دُومَة وتبوك وأيْلَةَ وَتَيْماء. وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات أوانه، فانقلبت لصالح المسلمين، وهكذا توسعت حدود الدولة الإسلامية، حتى لاقت حدود الرومان مباشرة، وشهد عملاء الرومان نهايتهم إلى حد كبير. الرجوع إلى المدينة ورجع الجيش الإسلامي من تبوك مظفرين منصورين، لم ينالوا كيداً، وكفي الله المؤمنين القتال، وفي الطريق عند عقبة حاول اثنا عشر رجلاً من المنافقين الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته، وحذيفة ابن اليمان يسوقها، وأخذ الناس ببطن الوادي، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة. فبينما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم، قد غشوه وهم ملتثمون، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمِحْجَن كان معه ، فأرعبهم اللّه، فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم، وأخبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأسمائهم، وبما هموا به، فلذلك كان حذيفة يسمي بصاحب سـر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول اللّه تعالي: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة:74]. ولما لاحت للنبي صلى الله عليه وسلم معالم المدينة من بعيد قال: (هذه طَابَةُ، وهذا أحُدٌ، جبل يحبنا ونحبه)، وتسامع الناس بمقدمه، فخرج النساء والصبيان والولائد يقابلن الجيش بحفاوة بالغة ويقلن: طلع البـدر علينا ** من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ** ما دعا للع داع وكانت عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك ودخوله في المدينة في رجب سنة 9هـ ، واستغرقت هذه الغزوة خمسين يوماً، أقام منها عشرين يوماً في تبوك، والبواقي قضاها في الطريق جيئة وذهوبًا. وكانت هذه الغزوة آخر غزواته صلى الله عليه وسلم. المُخَلَّفون وكانت هذه الغزوة ـ لظروفها الخاصة بها ـ اختباراً شديداً من اللّه، امتاز به المؤمنون من غيرهم، كما هي سنته تعالى في مثل هذه المواطن، حيث يقول: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[ آل عمران:179]. فقد خرج لهذه الغزوة كل من كان مؤمناً صادقاً، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل، فكان الرجل إذا تخلف وذكروه لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لهم: (دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه اللّه بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه)، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر، أو الذين كذبوا اللّه ورسوله من المنافقين، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذباً، أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسا. نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من غير مبرر، وهم الذين أبلاهم اللّه، ثم تاب عليهم. ولما دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد، فصلي فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فأما المنافقون ـ وهم بضعة وثمانون رجلاً ـ فجاءوا يعتذرون بأنواع شتي من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى اللّه. وأما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين ـ وهم كعب بن مالك، ومُرَارَة بن الربيع، وهلال بن أمية ـ فاختاروا الصدق، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصحابة ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة، وجرت ضد هؤلاء الثلاثة مقاطعة شديدة، وتغير لهم الناس، حتى تنكرت لهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وبلغت بهم الشدة إلى أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نساءهم، حتى تمت على مقاطعتهم خمسون ليلة، ثم أنزل اللّه توبتهم: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]. وفرح المسلمون، وفرح الثلاثة فرحاً لا يقاس مداه وغايته، فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا وتصدقوا، وكان أسعد يوم من أيام حياتهم. وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعالى فيهم: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]. وقال فيهم رسول اللّه حين دنا من المدينة: (إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مَسِيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العُذْرُ)، قـالوا: يا رسول اللّه، وهــم بالمدينة؟ قال: (وهم بالمدينة). أثر الغزوة وكان لهذه الغزوة أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على جزيرة العرب، فقد تبين للناس أنه ليس لأي قوة من القوات أن تعيش في العرب سوي قوة الإسلام، وبطلت بقايا أمل وأمنية كانت تتحرك في قلوب بقايا الجاهليين والمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين، وكانوا قد عقدوا آمالهم بالرومان، فقد استكانوا بعد هذه الغزوة، واستسلموا للأمر الواقع، الذي لم يجدوا عنه محيداً ولا مناصاً. ولذلك لم يبق للمنافقين أن يعاملهم المسلمون بالرفق واللين، وقد أمر اللّه بالتشديد عليهم، حتى نهي عن قبول صدقاتهم، وعن الصلاة عليهم، والاستغفار لهم والقيام على قبرهم، وأمر بهدم وكرة دسهم وتآمرهم التي بنوها باسم المسجد، وأنزل فيهم آيات افتضحوا بها افتضاحاً تاماً، لم يبق في معرفتهم بعدها أي خفاء، كأن الآيات قد نصت على أسمائهم لمن يسكن بالمدينة. ويعرف مدي أثر هذه الغزوة من أن العرب وإن كانت قد أخذت في التوافد إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد غزوة فتح مكة، بل وما قبلها، إلا أن تتابع الوفود وتكاثرها بلغ إلى القمة بعد هذه الغزوة. نزول القرآن حول موضوع الغزوة نزلت آيات كثيرة من سورة براءة حول موضوع الغزوة، نزل بعضها قبل الخروج، وبعضها بعد الخروج ـ وهو في السفر ـ وبعض آخر منها بعد الرجوع إلى المدينة، وقد اشتملت على ذكر ظروف الغزوة، وفضح المنافقين، وفضل المجاهدين والمخلصين، وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين، الخارجين منهم في الغزوة والمتخلفين، إلى غير ذلك من الأمور. بعض الوقائع المهمة في هذه السنة وفي هذه السنة وقعت عدة وقائع لها أهمية في التاريخ: 1 ـ بعد قدوم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من تبوك وقع اللعان بين عُوَيْمِر العَجْلاني وامرأته. 2 ـ رجمت المرأة الغامدية، التي جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة، رجمت بعدما فطمت ابنها. 3 ـ توفي النجاشي أصْحَمَة، ملك الحبشة، في رجب، وصلي عليه رسول الله صلاة الغائب في المدينة. 4 ـ توفيت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان، فحزن عليها حزناً شديداً، وقال لعثمان: (لو كانت عندي ثالثة لزوجتكها). 5 ـ مات رأس المنافقين عبد اللّه بن أبي بن سَلُول بعد مرجع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من تبوك، فاستغفر له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وصلي عليه بعد أن حاول عمر منعه عن الصلاة عليه، وقد نزل القرآن بعد ذلك بموافقة عمر. | |
|
| |
saeeddz المشرف العام
عدد المساهمات : 63 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 الموقع : http://radjaascouts.alafdal.net/
| موضوع: رد: الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 4:58 am | |
| حج أبي بكر رضي الله عنه
وفي ذي القعدة أو ذي الحجــة من نفس السنة ـ 9 هـ ـ بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أبــا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج، ليقيم بالمسلمين المناسك.
ثم نزلت أوائل سورة براءة بنقض المواثيق ونبذها على سواء، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب ليؤدي عنه ذلك، وذلك تمشياً منه على عادة العرب في عهود الدماء والأموال، فالتقي على بأبي بكر بالعَرْج أو بضَجْنَان، فقال أبو بكر: أمير أو مأمور؟ قال علي: لا، بل مأمور. ثم مضيا، وأقام أبو بكر للناس حجهم، حتى إذا كان يوم النحر، قام على بن أبي طالب عند الجمرة، فأذن في الناس بالذي أمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأجل لهم أربعة شهور، وكذلك أجل أربعة أشهر لمن لم يكن له عهد، وأما الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً، ولم يظاهروا عليهم أحداً فأبقي عهدهم إلى مدتهم.
وبعث أبو بكر رضي الله عنه رجالاً ينادون في الناس: ألا لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُرْيَان.
وكان هذا النداء بمثابة إعلان نهاية الوثنية في جزيرة العرب، وأنها لا تُبْدِئُ ولا تُعِيدُ بعد هذا العام.
نظرة على الغزوات
إذا نظرنا إلى غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه وسراياه، لا يمكن لنا ولا لأحد ممن ينظر في أوضاع الحروب وآثارها وخلفياتها ـ لا يمكن لنا إلا أن نقول:
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكبر قائد عسكري في الدنيا، وأشدهم وأعمقهم فراسة وتيقظاً، إنه صاحب عبقرية فذة في هذا الوصف، كما كان سيد الرسل وأعظمهم في صفة النبوة والرسالة، فلم يخض معركة من المعارك إلا في الظرف ومن الجهة اللذين يقتضيهما الحزم والشجاعة والتدبير، ولذلك لم يفشل في أي معركة من المعارك التي خاضها لغلطة في الحكمة وما إليها من تعبئة الجيش وتعيينه على المراكز الاستراتيجية، واحتلال أفضل المواضع وأوثقها للمجابهة، واختيار أفضل خطة لإدارة دفة القتال، بل أثبت في كل ذلك أن له نوعاً آخر من القيادة غير ما عرفتها الدنيا في القواد. ولم يقع ما وقع في أُحد وحنين إلا من بعض الضعف في أفراد الجيش ـ في حنين ـ أو من جهة معصيتهم أوامره وتركهم التقيد والالتزام بالحكمة والخطة اللتين كان أوجبهما عليهم من حيث الوجهه العسكرية.
وقد تجلت عبقريته صلى الله عليه وسلم في هاتين الغزوتين عند هزيمة المسلمين، فقد ثبت مجابهاً للعدو، واستطاع بحكمته الفذة أن يخيبهم في أهدافهم ـ كما فعل في أحد ـ أو يغير مجري الحرب حتى يبدل الهزيمة انتصاراً ـ كما في حنين ـ مع أن مثل هذا التطور الخطير، ومثل هذه الهزيمة الساحقة تأخذان بمشاعر القواد، وتتركان على أعصابهم أسوأ أثر، لا يبقي لهم بعد ذلك إلا هم النجاة بأنفسهم.
هذه من ناحية القيادة العسكرية الخالصة، أما من نواح أخري، فإنه استطاع بهذه الغزوات فرض الأمن وبسط السلام، وإطفاء نار الفتنة، وكسر شوكة الأعداء في صراع الإسلام والوثنية، وإلجائهم إلى المصالحة، وتخلية السبيل لنشر الدعوة، كما استطاع أن يتعرف على المخلصين من أصحابه ممن هو يبطن النفاق، ويضمر نوازع الغدر والخيانة.
وقد أنشأ طائفة كبيرة من القواد، الذين لاقوا بعده الفرس والرومان في ميادين العراق والشام، ففاقوهم في تخطيط الحروب وإدارة دفة القتال، حتى استطاعوا إجلاءهم من أرضهم وديارهم وأموالهم من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكيهن.
كما استطاع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بفضل هذه الغزوات أن يوفر السكني والأرض والحرف والمشاغل للمسلمين، حتى تَفَصَّي من كثير من مشاكل اللاجئين الذين لم يكن لهم مال ولا دار، وهيأ السلاح والكُرَاع والعدة والنفقات، حصل على كل ذلك من غير أن يقوم بمثقال ذرة من الظلم والطغيان والبغي والعدوان على عباد اللّه.
وقد غير أغراض الحروب وأهدافها التي كانت تضطرم نار الحرب لأجلها في الجاهلية، فبينما كانت الحرب عبارة عن النهب والسلب والقتل والإغارة والظلم والبغي والعدوان، وأخذ الثأر، والفوز بالوَتَر، وكبت الضعيف، وتخريب العمران، وتدمير البنيان، وهتك حرمات النساء، والقسوة بالضعاف والولائد والصبيان، وإهلاك الحرث والنسل، والعبث والفساد في الأرض ـ في الجاهلية ـ إذ صارت هذه الحرب ـ في الإسلام ـ جهاداً في تحقيق أهداف نبيلة ، وأغراض سامية، وغايات محمودة، يعتز بها المجتمع الإنساني في كل زمان ومكان، فقد صارت الحرب جهاداً في تخليص الإنسان من نظام القهر والعدوان، إلى نظام العدالة والنَّصَف، من نظام يأكل فيه القوي الضعيف، إلى نظام يصير فيه القوي ضعيفاً حتى يؤخذ منه، وصارت جهاداً في تخليص {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} [النساء:75]. وصارت جهاداً في تطهير أرض اللّه من الغدر والخيانة والإثم والعدوان، إلى بسط الأمن والسلامة والرأفة والرحمة ومراعاة الحقوق والمروءة.
كما شرع للحروب قواعد شريفة ألزم التقيد بها على جنوده وقوادها، ولم يسمح لهم الخروج عنها بحال. روي سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوي اللّه عز وجل، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: (اغزوا بسم اللّه، في سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه، اغزوا، فلا تغلوا، ولاتغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً...) الحديث. وكان يأمر بالتيسير ويقول: (يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا).
وكان إذا جاء قوماً بِلَيْل لم يُغِرْ عليهم حتى يُصبِح، ونهي أشد النهي عن التحريق في النار، ونهي عن قتل الصبر، وقتل النساء وضربهن، ونهي عن النهب حتى قال: (إن النُّهْبَى ليست بأحل من الميتة)، ونهي عن إهلاك الحرث والنسل وقطع الأشجار إلا إذا اشتدت إليها الحاجة، ولا يبقي سواه سبيل. وقال عند فتح مكة: (لا تجهزن على جريح، ولا تتبعن مدبراً، ولا تقتلن أسيراً)، وأمضى السنة بأن السفير لا يقتل، وشدد في النهي عن قتل المعاهدين حتى قال: (من قتل معاهداً لم يُرِحْ رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عاماً)، إلى غير ذلك من القواعد النبيلة التي طهرت الحروب من أدران الجاهلية حتى جعلتها جهاداً مقدساً.
الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً
كانت غزوة فتح مكة ـ كما قلنا ـ معركة فاصلة، قضت على الوثنية قضاء باتاً، عرفت العرب لأجلها الحق من الباطل، وزالت عنهم الشبهات، فتسارعوا إلى اعتناق الإسلام. قال عمرو بن سلمة: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ماللناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ فيقولون: يزعم أن اللّه أرسله، أوحي إليه، أوحي اللّه كذا، فكنت أحفظ ذاك الكلام، فكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم واللّه من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً. فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً... الحديث.
وهذا الحديث يدل مدي أثر فتح مكة في تطوير الظروف، وتعزيز الإسلام، وتعيين الموقف للعرب، واستسلامهم للإسلام، وتأكد ذلك أي تأكد بعد غزوة تبوك، ولذلك نري الوفود تقصد المدينة تتري في هذين العامين ـ التاسع والعاشر ـ ونري الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً، حتى إن الجيش الإسلامي الذي كان قوامه عشرة آلاف مقاتل في غزوة الفتح، إذا هو يزخر في ثلاثين ألف مقاتل في غزوة تبوك قبل أن يمضي على فتح مكة عام كامل، ثم نري في حجة الوداع بحراً من رجال الإسلام ـ مائة ألف من الناس أو مائة ألف وأربعة وأربعون ألفا منهم ـ يموج حول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالتلبية والتكبير والتسبيح والتحميد، تدوي له الآفاق، وترتج له الأرجاء. | |
|
| |
القدس Admin
عدد المساهمات : 158 تاريخ التسجيل : 04/04/2011 العمر : 33 الموقع : فوج جيل نوفمبر54
| موضوع: رد على الرحيق المختوم السبت أبريل 09, 2011 11:45 am | |
| السلام عليكم و رحمة الله نعالى وبركاته بارك الله تعالى فيكم على الموضوع وما اجمل ان يفتتح منتدى السيرة و الحديث النبوي بسيرة خير خلق الله صلى الله عليه وسلم اللهم اجعلنا ممن يعملون بسيرته و ارزقنا الشفاعة و الفردوس مع خيرة خلقك حبيبنا محمد عليه ازكى الصلوات و التسليم | |
|
| |
| الرحيق المختوم | |
|